شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الجذام

          ░19▒ بابُ الجُذَامِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ). [خ¦5707]
          قال أبو بكر بن الطَّيب: زعم الجاحظ عن النظَّام أنَّ قوله ◙: (فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ) معارضٌ قولَه صلعم (لَا عَدْوَىْ) قال ابن الطَّيب: وهذا جهل وتعسُّف مِن قائلِه لأنَّ قولَه: (لَا عَدْوَىْ) مخصوص ويُرَاد به شيء دون شيء، وإن كان الكلام ظاهرُه العموم، فليس ينكر أن يُخَصَّ العموم بقول آخر له أو استثناء، فيكون قولُه: (لَا عَدْوَىْ) المراد به: إلَّا مِن الجذام والبرص والجرب، فكأنَّه قال: (لَا عَدْوَىْ) إلَّا ما كنتُ بيَّنْتُه لكم أنَّ فيه عدوى وطيرة، فلا تناقض في هذا إذا رُتِّبت الأحاديث على ما وصفناه.
          قال الطَّبري: اختلف السَّلف في صحَّة هذا الحديث، فأنكر بعضُهم أن يكون صلعم أمر بالبعد مِن ذي عاهة جذامًا كانت أو برصًا أو غيرَه، وقالوا(1): قد أكل رسول الله صلعم مع مجذوم وأقعدَه معه وفعل ذلك(2) أصحابُه المهديُّون؛ حدَّثنا ابن بشَّار حدَّثنا(3) عبد الرَّحمن حدَّثنا سفيان عن عبد الرَّحمن بن القاسم عن أبيه: أنَّ وفد ثقيف أتوا أبا بكر الصِّدِّيق ☺ فأُتي بطعام فدعاهم فتنحَّى رجل، فقال: ما لك؟ قال: مجذوم، فدعاه وأكل معه.
          وعن سلمان وابن عُمر أنَّهما كانا يصنعان الطَّعام للمجذومين ويأكلان معهم، وعن عِكْرِمَة أنَّه تنحَّى مِن مجذوم، فقال له ابن عبَّاس: يا ماض، لعلَّه خير منِّي ومنك.
          وعن عائشة: أنَّ امرأة سألتْها أكان رسول الله صلعم يقول في المجذومين فرُّوا منهم فراركم مِن الأسد؟ فقالت عائشة: / كلا والله، ولكنه قال: ((لَا عَدْوَىْ فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ)) وكان مولى لي أصابَه ذلك الدَّاء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي، وينام على فراشي، قالوا: وقد أبطل رسول الله صلعم العدوى.
          رُوِّيْنَا عنه ◙ أنَّه أكل مع مجذوم خلافًا لأهل الجاهليَّة فيما كانوا يفعلونه مِن ترك مؤاكلتِه خوفًا أن يعديهم داؤُه، حدَّثنا به العبَّاس بن محمَّد حدَّثنا يونس بن محمَّد، عن مُفَضَّل بن فَضَالة عن حبيب بن الشَّهيد عن محمَّد بن المنكدر عن جابر: ((أَنَّ النَّبيَّ صلعم أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَقْعَدَهُ مَعَهُ، وَقَالَ: كُلْ ثِقَةً بِاللهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ)).
          وقال آخرون بتصحيح هذا الخبر، وقالوا: أمر النَّبيُّ صلعم بالفرار مِن المجذوم واتِّقاء مؤاكلتِه ومشاربتِه، فغير جائز لمَن علم أمرَه بذلك إلا الفرار مِن المجذوم، وغير جائز إدامة النَّظر إليهم لنهيه صلعم عن ذلك.
          ذِكْرُ مَن قال ذلك: روى مَعْمر عن(4) الزُّهريِّ أنَّ عُمَر بن الخطَّاب قال لمُعَيْقِيب: اجلس منِّي قيد رمح، وكان به ذلك الدَّاء وكان بدريًا، وروى أبو الزِّناد عن خارجة بن زيد قال: كان عمر إذا أُتي بالطَّعام وعنده مُعَيْقِيب قال له: كل ممَّا يليك، وايم الله لو غيرُك به ما بك ما جلس منِّي على أدنى مِن قيد رمح، وكان أبو قِلابة يتَّقي المجذوم.
          قال الطَّبري: والصَّواب عندنا ما صحَّ به الخبر عنه صلعم أنَّه قال: (لَا عَدْوَىْ) وأنَّه لا يصيب نفسًا إلا ما كُتب عليها، فأمَّا دُنُوُّ عليل مِن صحيح فإنَّه غير موجب للصحيح علَّة وسقمًا غير أنَّه لا ينبغي لذي صحَّة الدُّنُوُّ مِن الجذام والعاهة الَّتي يكرهُها(5) النَّاس لا أنَّ ذلك حرام؛ ولكن حذار مِن أن يظنَّ الصَّحيح إن نزل به ذلك الدَّاء يومًا أنَّ ما أصابَه لدنُوِّه منه فيوجب له ذلك الدُّخول فيما نهى عنه ◙ وأبطلَه مِن أمر الجاهلية في العدوى.
          وليس في أمره ◙ بالفرار مِن المجذوم خلاف لأكلِه معه لأنَّه ◙ كان يأمر بالأمر على وجه النَّدب أحيانًا، وعلى وجه الإباحة أخرى، ثم يترك فعلَه لِيُعْلِمَ بذلك أنَّ أمرَه به(6) لم يكن على وجه الالتزام، وكان ينهى عن الشَّيء على وجه التكرُّه والتَّنزُّه أحيانًا، وعلى وجه التَّأديب أخرى، ثم يفعلُه لِيُعْلِمَ بذلك أنَّ نهيَه لم يكن على وجه التَّحريم.
          قال غيرُه: وقد قال بعض العلماء: هذا الحديث يدلُّ أنَّه يفرَّق بين المجذوم وامرأتِه إذا حدث به الجذام وهي عنده لموضع الضَّرر، إلا أن ترضى بالمقام معه، وقال ابن القاسم: يحال بينَه وبين وطء رقيقِه إذا كان في ذلك ضرر، وقال(7) سُحنون: لا يحال بينَه وبين وطء إمائِه، ولم يختلفوا في الزَّوجة، قال ابن حبيب: وكذلك يمنع المجذوم مِن المسجد والدُّخول بين النَّاس واختلاطِه بهم كما رُوي عن عمر أنَّه مرَّ بامرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال لها: يا أمة الله، اقعدي في بيتك ولا تؤذي النَّاس.
          وقال مُطَرِّف وابن الماجِشون في المرضى إذا كانوا يسيرًا: لا يُخْرَجُونَ عن قرية ولا حاضرة ولا سوق، وإن كثروا رأينا أن يتَّخذوا لأنفسِهم موضعًا كما صنع مرضى مكة عند التَّنعيم منزلهم وفيه جماعتُهم، ولا أرى أن يُمْنَعُوا مِن الأسواق لتجارتهم وللنَّظر(8) والمسألة إذا لم يكن لهم إمام عدل(9) يرزقُهم، ولا يُمنعوا مِن الجمعة ويُمنعون مِن غيرِها.
          وقال أَصْبغ: ليس على مرضى الحواضر أن يخرجوا منها إلى ناحية بقضاء يحكم به عليهم، ولكنَّهم إن كفاهم الإمام مؤنتهم وأجرى عليهم الرِّزق مُنعوا مِن مخالطة النَّاس.
          قال ابن حبيب: والحكم بتنحيتهم إذا كثروا أعجب إليَّ، وهو الَّذي عليه النَّاس.


[1] في (ص): ((قالوا)).
[2] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((حدثنا)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((ذلك روي عن)).
[5] في (ص): ((يكرهها)).
[6] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((قال)).
[8] في (ص): ((والنظر)).
[9] في المطبوع: ((عادل)).