شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب السحر، وقول الله تعالى {ولكن الشياطين كفروا}

          ░47▒ بابُ السِّحْرِ.
          وَقَوْلِهُ ╡: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْرَ} الآية[البقرة:102]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحرحَيْثُ أَتَى}[طه:69]، وَقَوْلِهِ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحروَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء:3]وَقَوْلِهِ: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أنها تَسْعَى}[طه:66]وَقَوْلِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ في الْعُقَدِ} وَالنَّفَّاثَاتُ: السَّوَاحِرُ، تُسْحَرُونَ: تُعَمَّوْنَ.
          فيه: عَائِشَةُ: (سَحَرَ النَّبيَّ صلعم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ، حتَّى كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي لَكِنَّهُ دَعَا وَدعَا، ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأعْصَمِ، قَالَ: في أي شَيْءٍ؟ قَالَ: في مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعِ(1) نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذَرْوَانَ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صلعم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فقَالَ(2): يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنَّاءِ، وكَأَنَّ رُؤُوسَ نَخْلِهَا رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا اسْتَخْرَجتهُ؟ قَالَ: قَدْ عَافَانِي اللهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ على النَّاسِ فِيهِ شَرًَّا، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ). [خ¦5763]
          هذه رواية عيسى بن يونس عن هشام بن عروة، وقال اللَّيث وابن عيينة عن هشام: (فِي مُشْطٍ وَمُشَاقَةٍ) قال أبو عبد الله: يقال: المُشَاطة ما يخرج مِن الشَّعر إذا مُشِط، والمُشَاقَة مِن مُشَاقَة الكّتَّان.
          قال المهلَّب: و((الجُفُّ)) غشاء الطَّلع، وقال أبو عَمْرو الشَّيباني: الجُفُّ: شيء ينقر مِن جذوع النَّخل، و(نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ) الماء الَّذي يُصَبُّ عليها وتقع فيه، وقد تقدَّم في آخر كتاب الجهاد حكم الذِّمِّيِّ إذا سحر المسلم في باب هل يُعفى عن الذِّمِّيِّ إذا سحر، والجواب عن اعتراض الملحدين بحديث عائشة في جواز السِّحرعلى النَّبيِّ صلعم فأغنى عن إعادتِه(3).
          وقال ابن القصَّار: ذهب مالك وأبو حنيفة والشَّافعي إلى أنَّ السِّحرله حقيقة، وقد يَمرض مَن يُفعَل به ويموت / ويتغيَّر عن طبعِه، وقال بعض النَّاس: السِّحرتخييل وشعوذة وليس له حقيقة، ولا يُمرَض منه ولا يُقتَل به أحدٌ، واستدلُّوا على ذلك بقولِه تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه:66]فأخبر(4) ╡ أنَّ حبالَهم وعصيَّهم ما سعت في الحقيقة، فلو كان للسِّحر حقيقة لتحقَّق في ذلك الوقت لأنَّ فرعون كان قد جمع السَّحرة مِن كلِّ(5) البلدان، فلمَّا أخبرنا تعالى(6) أنَّ ما فعلوه خيالًا علم أنَّهُ لا حقيقة له.
          قال ابن القصَّار: والحجَّة على هذه المقالة حديث عائشة وهو نصٌّ لا يحتمل التَّأويل لأنَّهم سحروا النَّبيَّ صلعم حتَّى وصل المرض إلى بدنِه، لأنَّه قال لما حلَّ السَّحر: ((إِنَّ اللهَ شَفَانِي)) والشِّفاء إنَّما يكون برفع العلَّة وزوال المرض، وأيضًا قولُه تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاس السِّحْرَ}[البقرة:102]فنفى الله تعالى السِّحر عن سليمان وأضافه إلى الشَّياطين وأخبر أنَّهم يفعلونَه يعلِّمونَه النَّاس، ولو لم يكن له حقيقة لم يكن تعليمُه ولا أخبر تعالى أنَّهم يعلِّمونَه النَّاس.
          واختلف العلماء في المسلم إذا سحر بنفسِه، فذهب مالك إلى أنَّ السِّحر كفر وأنَّ السَّاحر يُقتَل ولا تُقبَل توبتُه؛ لأن الله تعالى سمَّى السِّحر كفرًا(7) بقوله ╡: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البقرة:102]وهو قول أحمد بن حنبل، وروي قتل السَّاحر عن عمر وعثمان وعبد الله بن عُمَر وحذيفة(8) وحفصة وأبي موسى وقيس بن سعد، وعن سبعة من التَّابعين، وقال الشَّافعي: لا يقتل السَّاحر إلا أن يقتل بسحرِه، وروي عنه أيضا أنَّه يُسْأَل عن سحرِه، فإن كان كفرًا استُتِيب منه.
          واحتجَّ أصحاب مالك بأنَّه لا(9) تقبل توبتُه؛ لأنَّ السِّحر باطن لا يظهرُه صاحبه فلا تُعرَف توبتُه كالزِّنديق، وإنَّما يُستتاب مَن أظهر الكفر كالمرتد.
          قال مالك: فإن جاء السَّاحر أو الزِّنديق تائبًا قبل أن يشهد عليهما بذلك قُبلَت توبتُهما، والحجَّة لذلك قولُه تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}[غافر:85]فدلَّ أنَّه كان ينفعهم إيمانُهم قبل نزول العذاب بهم، فكذلك هذان، وقال(10) مالك في المرأة تعقد زوجَها عن نفسِها أو عن غيرِها: تُنَكَّل ولا تُقتَل.


[1] في (ص): ((طلعة)).
[2] في (ص): ((قال)).
[3] قوله: ((عائشة في جواز الشعر... فأغنى عن إعادته)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((وأخبر)).
[5] قوله: ((كل)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((أخبرنا الله تعالى)).
[7] قوله: ((وأن السَّاحر يقتل ولا تقبل... السِّحركفراً)) ليس في (ص).
[8] قوله: ((وحذيفة)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((لم)).
[10] في (ص): ((فكذلك قال)).