شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الكهانة

          ░46▒ بابُ الكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ.
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَضَى فِي امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَت بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الَّذِي في بَطْنِهَا، فَقَضَى النَّبيُّ صلعم أَنَّ دِيَةَ مَا في بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ، فَقَالَ ولي الْمَرْأَةِ الَّتي غَرِمَتْ: كَيْفَ أَغْرَمُ يَا رَسُولَ اللهِ مَاْ لَا شَرِبَ وَلا أَكَلَ(1) وَلَا نَطَقَ وَلَا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ هَذَا يُطَلُّ! فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: إنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ). [خ¦5758]
          وفيه: أَبُو مَسْعُود: (نَهَى النَّبيُّ(2) صلعم عَنْ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ...) الحديث. [خ¦5761]
          وفيه: عَائِشَةُ: (سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلعم نَاسٌ عَنِ الْكُهَّانِ، فَقَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهمْ يُحَدِّثُونَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًَّا! فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَحْفَظُها(3) الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ، فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ). [خ¦5762]
          قال المؤلِّف: في هذه الآثار ذمُّ الكهَّان وذمُّ مَن تشبَّه بهم في ألفاظِهم لأنَّه صلعم كره قول وليِّ المرأة لما أشبَه سجع الكهَّان الَّذين يستعملونَه في الباطل ودفع الحق، ألا ترى أنَّه أتى بسجعِه محتجًّا(4) على رسول الله صلعم في دفع شيء قد أوجبَه / عليه صلعم فاستحقَّ بذلك غاية الذَّمِّ وشديد العقوبة في الدُّنيا والآخرة، غير أنَّ النَّبيَّ صلعم جبلَه الله سبحانه على الصَّفح عن الجاهلين وترك الانتقام لنفسِه فلم يعاقبْه في اعتراضِه عليه كما لم يعاقب الَّذي قال له: إنَّك لم تعدل منذ اليوم، ولم يعاقب موالي بَرِيْرَة في اشتراطِهم ما يخالف كتاب الله تعالى وأنفذ حكم الله تعالى في كلِّ ذلك.
          فإن قال قائل: فالسَّجع كلُّه مكروه؟ قيل له: لا قد أتى به كلام رسولِ(5) ربِّ العالمين، ومنه قولُه ◙: ((يَقُولُ العَبْدُ: مَالِيْ مَالِيْ، وَمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ)) قالَه ابن النحَّاس.
          وأمَّا نهيُه عن حلوان الكاهن فالأمَّة مجمعة على تحريمِه لأنَّهم يأخذون أجرة ما لا يصلح فيه أخذ عوض، وهو الكذب الَّذي يخلطونَه مع ما يسترقُه الجنُّ فيفسدون تلك الكلمة(6) مِن الصِّدق بمائة كذبة أو أكثر كما جاء في بعض الرِّوايات، فلم يسغ أن يُلتفَت إليهم، ولذلك قال صلعم: (لَيْسُوْا بِشَيْءٍ) وقد جاء فيمَن أتى الكهَّان آثار شديدة روى الطَّبري عن عبد الله بن شَبُّوْيَه حدَّثنا أَبِي حدَّثنا أيُّوب بن سليمان حدَّثنا أبو بكر بن أبي أُوَيس عن سليمان بن بلال عن عُبيد الله بن عُمَر عن نافع عن صفيَّة بنت أبي عُبيد عن عُمَر بن الخطاب أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ(7) أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَلَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)).
          وحدَّثنا أبو كُريب حدَّثنا وكيع عن حمَّاد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أنَّ النَّبي صلعم قال: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلعم)).
          وقال ابن دُريد: أهل الحديث يقولون: ((بَطَلَ)) وهو تصحيف وإنَّما هو ((يُطَلُّ)) قال صاحب «الأفعال»: طَلَّ الدم وطُلَّ إذا هُدر، قال الشاعر:
وَمَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ فِي فِرَاشِهِ                     وَلَا طُلَّ مِنَّا حَيْثُ كَانَ قَتِيلُ
          وقد قيل: أطل الدَّم بمعنى طل، ولم يعرفْه الأصمعي.


[1] في (ص): ((ما لا أكل ولا شرب)).
[2] في (ص): ((الرَّسول)).
[3] كذا في (ز) و (ص) والمطبوع: ((يحفظها)) في مصورة السلطانية: ((يخطفها)).
[4] في (ص): ((سجعه صحيحاً)).
[5] قوله: ((رسول)) زيادة من (ص).
[6] في (ص): ((تلك المرة)).
[7] في (ص): ((لم تقبل صلاته)).