شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الطيرة

          ░43▒ بابُ الطِّيَرَةِ.
          فيه: ابنُ عُمَر قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍة: فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ). [خ¦5753]
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ(1) صلعم: (لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ، قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: كَلِمَةُ صَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ). [خ¦5754]
          وفيه: أَنَسٌ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ الصَّالِحُ وَالْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ). [خ¦5756]
          قال الخطَّابي: الفرق بين الفأل والطِّيَرة أنَّ الفأل(2) إنَّما هو مِن طريقِ حسنِ الظَّنِّ بالله تعالى، والطِّيرة إنَّما(3) هي مِن طريق الاتِّكال على شيء سواه.
          وقال الأصمعي: سألت ابن عون عن الفأل فقال: هو أن تكون مريضًا فتسمع يا سالم، أو تكون باغيًا فتسمع يا واجد.
          قال المؤلِّف: وكان النَّبيُّ صلعم يسأل عن اسم الأرض والخيل والإنسان(4) فإن كان حسنًا سُرَّ بذلك واستبشر به(5) وإن كان سيِّئًا ساءَه ذلك، وزعم بعض المعتزلة أنَّ قولَه صلعم: (لَا طِيَرَةَ) يعارض قولَه: (الشُّؤْمُ / فِي ثَلَاثٍ) قال ابن قتيبة وغيرُه: وهذا تعسُّف وبعد عن العلم، ولكلِّ شيء منها موضع إذا وضع فيه زال الخلاف وارتفع التعارض، ووجه ذلك أن يكون قولُه صلعم: (لَا طِيَرَةَ) مخصوصًا بحديث الشُّؤم، فكأنَّه قال صلعم: لا طِيَرة إلا في الدَّار والمرأة(6) والفرس لمَن التزم الطِّيَرة، يدلُّ على صحة هذا ما رواه زهير بن معاوية عن عُتبة بن حُميد عن عُبيد الله بن أبي بكر أنَّه سمع أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلعم: ((لَا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّر، وَإِنْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ فَفَي الدَّارِ وَالمَرْأَةِ وَالفَرَسِ)).
          فبان بهذا الحديث أنَّ الطِّيرة إنَّما تلزم مَن تطيَّر بها، وأنَّها في بعض الأشياء دون بعض، وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يقولون: الطِّيَرة في الدَّار والفرس والمرأة، فنهاهم النَّبيُّ صلعم عن الطِّيرة فلم ينتهوا فبقيت في هذه الثَّلاثة الأشياء الَّتي كانوا يلتزمون(7) التَّطيُّر فيها.
          ومثله قولُه تعالى عن(8) أهل القرية حين قالوا: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} {قَالُوْا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}[يس:18-19]أي: حظُّكم مِن الخير والشرِّ معكم ليس هو مِن شؤمنا وكذلك قولُه ◙ في الدَّار: ((اتْرُكُوهَا ذَمِيْمَةً)) فإنَّما قال ذلك لقوم علم منهم أنَّ الطِّيَرة والتَّشاؤم غلب عليهم وثبت في نفوسهم لأنَّ إزاحة ما ثبت في النَّفس عسير، وقد قال ◙: ((ثَلَاثٌ(9) لَا يَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ: الطِّيَرَةُ وَالظَّنُّ وَالحَسَدُ؛ فَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَلَا تَرْجِعْ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ، وَإِذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ)).
          وليس في قولِه صلعم: ((دَعُوْهَا ذَمِيْمَةً)) أمر منه بالتَّطيُّر، وكيف وقد قال: لا طيرة؟! وإنَّما أمرهم بالتحوُّل عنها لما قد جعل الله ╡ في غرائز(10) النَّاس مِن استثقال ما نالهم فيه الشرِّ وإن كان لا سبب له في ذلك، وحبِّ مَن جرى لهم الخير على يديه وإن لم يرِدْهم به، وكان النَّبيُّ صلعم يستحبُّ الاسم الحسن والفأل الصَّالح، وقد جعل الله تعالى في فطرة النَّاس محبَّة الكلمة الحسنة والفأل الصَّالح(11) والأنس به، كما جعل فيهم الارتياح للبشرى والمنظر الأنيق، وقد يمرُّ الرجل بالماء الصَّافي فيعجبُه وهو لا يشربُه وبالرَّوضة المنثورة فتسرُّه وهي لا تنفعُه، وفي بعض الحديث ((أَنَّ النَّبيَّ(12) صلعم كَانَ يُعْجِبُهُ الأُتْرُجُّ وَيُعْجِبُهُ الفَاغِيَةُ وَهِي نُور الحِنَّاءِ)).
          وهذا مثل إعجابِه بالاسم الحسن والفأل الحسن وعلى حسب هذا كانت كراهيتُه(13) الاسم القبيح كَبَنِي النَّار وبني حَزْن وشبهُه، وقد كان كثير مِن أهل الجاهليَّة لا يرون الطِّيَرة شيئًا ويمدحون مَن كذب بها، قال المرقش(14):
وَلَقَدْ غَدَوْتُ وَكُنْتَ لَا                     أَغْدُو عَلَى وَاقٍ وَحَائِمِ
فَإِذَا الأَشَائِمُ كَالأَيَا                      مِنِ وَالأَيَامِنِ كَالأَشَائِمِ
          وقال عِكْرِمَة: كنت عند ابن عبَّاس فمرَّ طائر يصيح، فقال رجل مِن القوم: خير خير، فقال ابن عبَّاس: ما عند هذا لا خير ولا شرٌّ.


[1] قوله: ((النَّبي)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((أن الفأل)) ليس في (ص).
[3] قوله: ((هو من طريق حسن...والطريق إنَّما)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((الخيل والأرض والأنساب)).
[5] قوله: ((واستبشر به)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((في المرأة والدار)).
[7] في (ص): ((يلزمون)).
[8] في (ص): ((على)) وأثبت فوقها: ((عن)).
[9] في (ص): ((ثلاثة)).
[10] في (ص): ((عوائد)).
[11] في (ص): ((الكلمة الطيبة والعمل الصالح)).
[12] في (ص): ((الرَّسول)).
[13] في (ص): ((كراهية)).
[14] في (ص): ((وقال امرؤ القيس)).