شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا هدم حائطًا فليبن مثله

          ░35▒ بَابُ إِذَا هَدَمَ حَائِطًا يَبْني مِثْلَهُ
          فيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم(1): (كَانَ رَجُلٌ في بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ الرَّاهِبُ يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ: أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي، ثُمَّ أَتَتْهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَالْمُومِسَاتِ، وَكَانَ جُرَيْجٌ في صَوْمَعَتِهِ(2)، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: لأفْتِنَنَّ جُرَيْجًا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، وكَلَّمَتْهُ(3) فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَت(4) مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فقَالَتْ(5): هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فكَسَرُوا(6) صَوْمَعَتَهُ، وأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلاَمَ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟ قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا إِلَّا مِنْ طِينٍ). [خ¦2482]
          وذهب الكوفيُّون والشَّافعيُّ وأبو ثَوْرٍ إلى(7) أنَّ مَنْ هدمَ حائطًا لرجلٍ فإنَّه يبني مثلَه على ظاهرِ(8) الحديث، واختلف قولُ مالكٍ في ذلك، فروى ابنُ القَاسِمِ عنه في «العُتْبِيَّةِ»: في رجلٍ له خليجٌ يجري تحت جدارِ رجلٍ آخر، فجرى السَّيلُ فيه فهدمَه، قَالَ مَالِكٌ: أرى أن يُقضى ببنيانه على صاحبِ الخليجِ الَّذي أفسد حائطَ الرَّجلِ.
          وقال في(9) «المُدَوَّنَةِ»: ما انهدمَ مِنَ الرُّبعِ بيدِ الغاصبِ، وإن لم يكن بسبِبِه فعليه قيمتُه يومَ الغصبِ، وقولُه في مسألةِ الخليجِ أشبَهُ بالحديثِ.
          قال المُهَلَّبُ: وفي هذا الحديثِ مِنَ الفقه المطالبةُ بالدَّعوى، كما طالبتْ بنو إسرائيلَ جُرَيْجًا بما ادَّعَتْهُ المرأةُ عليه، وفيه استنقاذُ عبادِ(10) الله ╡ لصالحِ(11) عبادِه وأوليائه عند جورِ العامَّةِ وأهلِ الجهلِ عليهم بآيةٍ يُرِيهم اللهُ إيَّاها، فإن كانت عرضت في الإسلامِ فبكرامةٍ / يكرمُه الله بها، وسببٍ يُسَبِّبُه له، لا بخرقِ عادةٍ، ولا قلبِ عينٍ، وإنَّما كانت الآياتُ في بني إسرائيلَ لأنَّ النُّبوَّةَ كانت ممكنةً فيهم غير مُمْتَنِعَةٍ عليهم.
          ولا نبيَّ بعدَ مُحَمَّدٍ صلعم، فليس يجري مِنَ الآياتِ بعدَه ما يكونُ خرقًا للعادةِ ولا قلبًا لعينٍ، إنَّما(12) تكونُ كرامةً لأوليائِه مثل دعوةٌ مجابةٌ، ورؤيا صالحةٌ، وبركةٌ ظاهرةٌ، وفضلٌ بيِّنٌ وتوفيقٌ مِنَ الله ╡ إلى الإبراءِ ممَّا اُتَّهِمَ به الصَّالحون، وامْتُحِنَ به المتَّقونَ.
          وفي دعاءِ أمِّهِ عليه(13) وهو في الصَّلاةِ دليلٌ أنَّ دعاءَ الوالدينِ إذا كانَ بنيَّةٍ خالصةٍ أنَّه قد يُجَابُ، وإن كان(14) في حالِ ضجرٍ وحرجٍ ولم يكن(15) على صوابٍ لأنَّه قد أُجيب دعاءُ أمِّه بأن امْتُحِنَ(16) مع المرأةِ الَّتي كذبت عليه، إلَّا أنَّه تعالى استنقذَه بمراعاتِه لأمرِ ربِّه ╡، فابتلاه وعافاه، وكذلك يجبُ للإنسانِ أن يُراعي أمرَ ربِّه ودينِه، ويُقدِّمه على أمورِ دنياه فتحمدُ عاقبتُه.
          وقوله: (فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى) فيه ردٌّ على مَنْ قالَ إنَّ هذه الأُمَّةَ مخصوصةٌ بالوضوءِ مِنْ بين سائرِ الأممِ، وأنَّهم يأتونَ لذلك غرًّا مُحَجَّلِينَ يومَ القيامةِ، فبانَ بهذا الحديثِ أنَّ الوضوءَ كان(17) في غيرِ هذهِ الأُمَّةِ، ووضحَ أنَّ الَّذي خُصَّتْ به هذه الأُمَّةُ مِنْ بين سائرِ الأممِ(18) هو الغررِ والتَّحجيلِ ليمتازوا(19) بذلك مِنْ بينِ سائرِ الأممِ، وقد جاء في حديثِ سَارَةَ حين أخذها الكافرُ مِنْ إبراهيمَ ◙ أنَّها قامتْ وتوضَّأتْ(20) وصَلَّتْ حتَّى غطَّ الكافرُ برجلِه، ذكره البخاريُّ في كتابِ الإكراهِ [خ¦6950]، وقد رُوِيَ عن الرَّسولِ(21) صلعم أنَّه توضَّأ ثلاثًا وقال: ((هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي)) فثبت بهذا كلِّه أنَّ الوضوءَ مشروعٌ قبل أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلعم.


[1] في (ز): ((أبو هريرة عن النَّبيِّ صلعم)).
[2] قوله: ((وَكَانَ جُرَيْجٌ في صَوْمَعَتِهِ)) ليس في (ز).
[3] في المطبوع: ((فكلمته))، غير واضحة في (ص).
[4] في المطبوع: ((فأمكنته)).
[5] في (ز): ((قالت)).
[6] في (ز): ((وكسروا)).
[7] قوله: ((إلى)) ليس في (ز).
[8] زاد في (ز): ((هذا)).
[9] في (ز): ((قال: وفي)).
[10] قوله: ((عباد)) ليس في (ز).
[11] في (ز):((لصالحي)).
[12] في (ز): ((قلب العين وإنما)).
[13] في (ز): ((له)).
[14] في (ز): ((كانا)).
[15] في (ز): ((يكونا)).
[16] في (ز):((امتحنه)).
[17] قوله: ((كان)) ليس في (ز).
[18] زاد في (ز): ((إنَّما)).
[19] في (ز): ((لتمتاز)).
[20] في (ز): ((فتوضَّأت)).
[21] في (ز): ((النَّبيِّ)).