شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات

          ░22▒ بَابُ أَفْنِيَةِ الدُّورِ وَالجُلُوسِ فِيهَا وَالجُلُوسِ عَلَى الصُّعُدَاتِ
          فيهِ أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فقَالَ(1): فإِذَا(2) أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ). [خ¦2465]
          قال الطَّبَرِيُّ وغيرُه: فيه مِنَ الفقهِ وجوبُ غضِّ البصرِ عن النَّظرِ إلى عورةِ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، وعن جميعِ المحرَّماتِ، وكل ما تُخْشَى الفتنةُ منه، وقد قالَ ◙(3): ((لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فإنِّمَا لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ)).
          وفيه: وجوبُ ردِّ السَّلامِ على مَنْ سلَّم عليه، ولزومُ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِّ عن المنكرِ، وكفُّ الأذى، وقد روى عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ ☺ هذا الحديثَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم وزاد فيه: ((إِغَاثَة المَلْهُوفِ)) قال أبو عبدِ اللهِ بنِ أبي صُفْرَةَ: وفيه قطعُ الذَّرائعِ لأنَّ الجلوسَ ذريعةٌ إلى تسليطِ البصرِ، وقلَّةِ القيامِ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِّ عن المنكرِ، فلذلك نُهِيَ عنه.
          قال المُهَلَّبُ: وإنَّما يلزم المؤمن تغيير المنكر، وإغاثة الملهوف، وعون الضَّعيف ما دفعت الحَضْرَةُ إليه، وليس عليه طلبُ ذلك، إنَّما عليه ما حضر منها.
          قال الطَّبَرِيُّ: وفيه الدلالةُ على النَّدبِ إلى لزومِ المنازلِ التي يسلمُ لازمُها مِنْ رؤيةِ ما يُكْرَهُ رؤيتُه، وسماعِ ما لا يحلُّ له سماعُه، ممَّا يجب عليه إنكارُه ومِنْ معاونِة مستغيثٍ يلزمُه إعانتَه، وذلك أنَّ الرَّسولَّ(4) إنما أَذِنَ في الجلوسِ بالأفنيةِ(5) والطُّرقِ بعد نهيه عنه إذا كانَ مَنْ يقومُ بالمعاني الَّتي ذكرَها ◙، وإذا كان ذلك كذلك بالأسواقِ التي تجمعُ المعاني الَّتي أمرَ النَّبيُّ ◙ الجالسَ بالطَّريقِ باجتنابِها(6) مع الأمورِ الَّتي هي أوجبُ منها / وألزمُ مِنْ تركِ الكذبِ والحلفِ بالباطلِ وتحسينِ السِّلعِ بما ليس فيها، وغشِّ المسلمين، وغير ذلك مِنَ المعاني الَّتي لا يطيقُ القيام بما يلزمه فيها إلَّا مَنْ عصمَه اللهُ أحقُّ وأولى بتركِ الجلوسِ فيها مِنَ الأفنيةِ والطُّرقِ، وقد(7) رُوِيَ نحوها(8) عن جماعةٍ مِنْ أهلِ العلم، روى هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ قال: المجالسُ حِلَقُ الشَّيطانِ، إن يروا حقًّا لا يقومون(9) به، وإن يروا باطلًا فلا يدفعوه.
          وقال عامرٌ: كان النَّاسُ يجلسونَ في مساجدِهم، فلمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ ☺ خرجوا إلى الطَّريقِ يسألون عن الأخبارِ، وقال سَلْمَانُ: لا تكوننَّ أوَّلَ مَنْ يدخلُ السُّوقَ ولا آخر مَنْ يخرجُ منها، فإنَّها معركةُ الشَّيطانِ، وبها ينصبُ رايته، وقال: السُّوقُ مبيضُ الشَّيطانِ ومفرخُه.
          وقد يُرَخِصُ(10) في الجلوسِ بالأفنيةِ(11) والطُّرقِ والأسواق قومٌ مِنْ أهلِ الفضلِ والعلمِ(12)، ولعلَّهم إنَّما فعلوا ذلك لأنَّهم قاموا بما عليهم فيه، قال طَلْحَةَ بنُ عُبَيْدِ الله: مجلسُ الرُّجل ببابِه(13) مروءةٌ، وقال ابنُ عَوْفٍ: مررتُ بعامرٍ وهو جالسٌ بفنائِه.
          وقال ابنُ أبي خالدٍ: رأيتُ الشَّعْبِيَّ جالسًا في الطَّريقِ، والصُّعداتُ: الطُّرقُ، عن صاحبِ «العينِ».


[1] في المطبوع: ((قال))، وغير واضحة في (ص).
[2] في (ز): ((إذا)).
[3] في (ز): ((النَّبيُّ)).
[4] في (ز): ((النَّبيَّ)).
[5] في (ز): ((بالأندية)).
[6] في (ز): ((بالمعاني الَّتي أمر النَّبيُّ صلعم بالجلوس بالطُّرق باجتنابها)).
[7] في (ز): ((فقد)).
[8] في (ز): ((نحو قولنا)).
[9] في (ز): ((يقوموا)).
[10] في (ز): ((ترخَّص)).
[11] في (ز): ((بالأندية)).
[12] قوله: ((والعلم)) ليس في (ز).
[13] في (ز): ((بيان)).