شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه

          ░18▒ بَابُ قِصَاصِ المَظْلُومِ وإِذَا وَجدَ(1) مَالَ ظَالِمِهِ
          قَالَ ابنُ سِيرِينَ يُقَاصُّهُ، وَقَرَأَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} الآية[النحل:126].
          فيهِ عَائِشَةُ: (جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صلعم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ(2) حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ(3): لَا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالمَعْرُوفِ). [خ¦2460]
          وفيهِ عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ: (قالَ:(4) قُلْنَا لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّكَ تَبْعَثُنَا، فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لَا يَقْرُونَا فَمَا تَرَى فِيهِ؟ قَالَ(5) لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا(6) لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ). [خ¦2461]
          اختلفَ العلماءُ في الَّذي يجحدُ وديعةَ غيره، ثمَّ المودعُ يجدُ(7) له مالًا، هل يأخذُه عوضًا مِنْ حقِّه أم لا؟
          اختلفَ(8) قولُ مالكٍ في ذلك، فروى ابنُ القَاسِمِ عن مالكٍ أنَّه لا يفعلُ، واحتجَّ بما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم أَنَّه قَالَ: ((أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ))، وروى زيادٌ عن مالكٍ(9) أنَّ له أن يأخذَ حقَّه إذا وجدَه مِنْ مالِه إذا لم يكن فيه شيءٌ مِنَ الزِّيادةِ، وهو قولُ الشَّافعيِّ / واحتجَّ بحديث هندٍ.
          وروى ابنُ وَهْبٍ عن مالكٍ أنَّه إذا لم يكن على الجاحدِ للمالِ دينٌ فله أن يأخذَ ممَّا يظفرُ له به مِنَ المالِ حقَّه، فإن كان عليه دينٌ فليس له أن يأخذَ إلَّا بمقدارِ ما يكونُ فيه أسوةُ الغرماءِ، و قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يأخذُ مِنَ الذَّهبِ الذَّهبَ، ومِنَ الفِضَّةِ الفِضَّةَ، ومِنَ المكيلِ المكيلَ ومِنَ الموزونِ الموزونَ، ولا يأخذُ غير ذلك، وَقَالَ زُفَرُ: له أن يأخذَ العرضَ بالقيمةِ.
          وأولى الأقوالِ بالصَّوابِ في ذلك قولُ مَنْ أجاز الانتصافَ مِنْ حقِّه إذا وجدَ مالَ مَنْ ظلمَه بدلالةِ الآية ودلالةِ حديث هندٍ، ألا ترى أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أجاز لها أن تطعمَ عيلةَ(10) زوجِها مِنْ مالِه بالمعروفِ(11)، عِوَضَ ما قصَّر(12) مِنْ إطعامِهم، فدخلَ في معنى ذلك كلُّ مَنْ وجبَ عليه حقٌّ لم(13) يوفِه أو جحدَه أنَّه يجوزُ له الاقتصاصُ منه، وليس قوله ◙: ((أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) بمخالفٍ(14) لهذا المعنى لأنَّ مَنْ أخذَ حقَّه فلا يُسَمَّى خائنًا.
          وقوله: (أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ) معناه للخصوصِ(15)، فكأنَّه قال ◙: أدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتمنَك إذا(16) لم يكن غاصبًا لمالكٍ ولا جاحدًا له، وأمَّا مَنْ غصبَك حقَّك وجحدَك فليس يدخلُ فيمَنْ أُمِرَ بأداءِ الأمانة إليه لقولِه تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}[النَّحل:126]ولدلالةِ حديثِ هندٍ، وهذا التَّأويلُ ينفي التَّضَادَّ عن الآثارِ(17) ودليلِ القرآنِ.
          وأمَّا حديثُ عُقْبَةَ بنِ عامرٍ فقالَ أكثرُ العلماءِ أنَّه كان في أوَّلِ الإسلامِ، حين كانت المواساةُ واجبةً، وهو منسوخٌ بقولِه ◙: ((جَائِزَتُهُ يَومٌ وَلَيلَةٌ)) قالوا: والجائزةُ تَفَضْلٌ وليستْ بواجبةٍ، وستأتي مذاهبُ العلماءِ في الضِّيافةِ في باب(18) الأدبِ في بابِ إكرامِ الضَّيفِ إنْ شاءَ اللهُ تعالى [خ¦6135].


[1] زاد في (ز): ((المظلوم)).
[2] زاد في (ز): ((من)).
[3] في (ز): ((قال)).
[4] قوله: ((قال)) ليس في (ز).
[5] في (ز): ((فقال)).
[6] في (ز): ((فأُمر)).
[7] في (ز): ((ثمَّ يجد له)).
[8] في (ز): ((واحتلف)).
[9] في (ص): ((زياد عن مالك)) غير واضحة.
[10] في (ز): ((عبيد)).
[11] في المطبوع: ((المعروف)).
[12] زاد في (ز): ((فيه)).
[13] في (ز): ((ولم)).
[14] في (ز): ((مخالفًا)).
[15] في (ز): ((الخصوص)).
[16] في (ز): ((إن)).
[17] قوله: ((عن الآثار)) ليس في (ص).
[18] في (ز): ((كتاب)).