شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قصاص المظالم

          ░1▒ بَابُ قِصَاصِ المَظَالِمِ
          فيهِ أَبُو سَعِيدٍ(1)، قَالَ النَّبيُّ صلعم: (إِذَا خَلَصَ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ حُبِسُوا بِقَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَتَقَاصُّونَ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ في الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ(2) بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ في الجَنَّةِ أَدَلُّ بَمَسْكَنِهِ(3) كَانَ فِي الدُّنْيَا). [خ¦2440]
          وهذه المقاصَّةُ الَّتي في هذا الحديثِ هي لقومٍ دونَ قومٍ وهم مَنْ لا تستغرقُ مظالمُهم جميعَ حسناتِهم لأنَّهم(4) لو استغرقت جميعَها لكانوا ممَّنْ وجبَ لهم العذابُ، ولما جازَ أن يُقَالَ فيهم: خلصوا مِنَ النَّارِ، فمعنى الحديثِ، والله أعلم، على الخصوصِ لِمَنْ يكون عليه تبعاتٌ يسيرةٌ.
          فالمقاصَّةُ أصلُها في كلامِ العربِ مقاصصةٌ، وهي مفاعلةٌ، ولا تكون المفاعلةُ أبدًا إلَّا مِنِ اثنينِ، كالمقاتلةِ والمشاتمةِ، فكأنَّ كلَّ واحدٍ منهم له على أخيهِ مظلمةٌ / [وعليه له مظلمةٌ، ولم يكن في شيءٍ منها ما يستحقُّ عليه النَّارَ فيتقاصُّون بالحسناتِ(5)، فمَنْ كانت مظلمتُه أكثرَ مِنْ مظلمةِ أخيه أخذَ(6) مِنْ حسناتِه فيدخلون الجنَّةَ، ويقتطعونَ فيها المنازلَ على قدرِ ما بقي لكلِّ واحدٍ منهم مِنَ الحسناتِ، فلهذا يتقاصُّون بالحسناتِ بعد خلاصِهم](7) مِنَ النَّارِ، والله أعلم، لأنَّ أحدًا لا يدخلُ الجنَّةَ ولأحدٍ عليه تبعةٌ(8)، فإن(9) قلت: إذا(10) نُقُّوا وهذِّبُوا دخلوا الجنَّةَ.
          وقوله: (وَالَّذِي(11) نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ بِمَسْكَنِهِ في الجَنَّةِ أَدَلُّ بِمَنْزِلِهِ كَانَ في الدُّنْيَا) وإنَّما(12) عَرَفُوا منازلهم في الجنَّة بتكريرِ(13) عرضِها عليهم بالغداةِ والعشيِّ، فقد أخبرنا ◙ أنَّ المؤمنَ إذا كان مِنْ أهلِ الجنَّةِ عُرِضَ عليه مقعده منها بالغداةِ والعشيِّ، فيُقَالُ له: هذا مقعدُك حتَّى يبعثَك اللهُ يومَ القيامةِ.
          وقال المُهَلَّبُ: هذه المقاصَّةُ إنَّما تكونُ في المظالمِ في الأبدانِ مِنَ اللَّطمةِ وشبهِها ممَّا المظالمُ فيه ممكنٌ لأداءِ القصاصِ فيه بحضورِ بدنِه، فيُقَالُ للمظلومِ: إن شئتَ أن تنتصفَ، وإن شئتَ أن تعفوَ للأجرِ. وقال غيرُهُ: الآثارُ تدلُّ على أنَّه لا قصاصَ في الآخرةِ في العِرضِ والمالِ وغيرِه إلَّا بالحسناتِ والسَّيِّئاتِ، فمَنْ ظلمَ غيرَه وكانت له حسناتٌ أُخِذَ منها وزِيدَتْ في حسناتِ المظلومِ، وإن(14) لم يكن للظَّالمِ حسناتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئاتِ المظلومِ ورُدَّت على الظَّالمِ.


[1] زاد في المطبوع: ((الخدريُّ)).
[2] في (ز): ((فوالَّذي نفسي)).
[3] في (ز): ((بمنزله)).
[4] في (ز): ((لأنَّه)).
[5] زاد في المطبوع: ((والسَّيِّئات)).
[6] قوله: ((أخذ)) ليس في (ز).
[7] ما بين معقوفتين مطموس في (ص).
[8] غير واضحة في (ص).
[9] في (ز): ((وإن)).
[10] في (ز): ((فإذا)).
[11] في (ز): ((فوالَّذي)).
[12] في (ز): ((فإنَّما)).
[13] في (ز): ((بتكرُّر)).
[14] في (ز): ((فإن)).