نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا

          7207- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ) الضُّبعي، قال: (حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ) بضم الجيم مصغر جارية بن أسماء، وهو: عمُّ عبد الله بن محمَّد بن أسماء الرَّاوي عنه (عَنْ مَالِكٍ) الإمام (عَنِ الزُّهْرِيِّ) ابن شهاب (أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابن عوفٍ ☺ (أَخْبَرَهُ: أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ) بكسر الميم، و((مَخرمَة)) _بفتح الميمين بينهما خاء معجمة_ ابن نوفل، وهو: ابنُ أخت عبد الرَّحمن بن عوف، يكنى: أبا عبد الرَّحمن، سمع النَّبي صلعم .
          (أَخْبَرَهُ: أَنَّ الرَّهْطَ) وهو ما دون العشرة، وقيل: إلى ثلاثة (الَّذِينَ وَلاَّهُمْ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺؛ أي: عيَّنهم للتَّشاور فيمن يعقد [له] الخلافة فيهم، وذلك كان لما طعن عمر ☺ قيل له: استخلف، قال: وقد رأيت من حرصهم ما رأيت إلى أن قال: هذا الأمرُ بين ستة رهطٍ من قريش، فذكرهم وبدأ بعثمان: ثمَّ قال: وعلي.
          وهم كما سبق في ((باب قصَّة البيعة)) من ((المناقب)) [خ¦3700]: عثمان وعلي وطلحة والزُّبير وعبد الرَّحمن بن عوف وسعد بن أبي وقَّاص ♥ .
          (اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا) فيمن يولُّوه الخلافة (قَالَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <فقال> (لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) أي: ابن عوف (لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ) بضم الهمزة وفتح النون وبعد الألف فاء مكسورة فسين مهملة؛ أي: أنازعكم (عَلَى هَذَا الأَمْرِ) أي: الخلافة، إذ ليس لي فيها رغبةٌ، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي والمستملي: <عن> بدل: ((على)) أي: من جهته ولأجله، والأوَّل أوجه.
          (وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ) أي: ممَّن سمَّاهم عمر ☺ دونه (فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ) يعني: أمر الاختيار منهم (فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ) من الميل. وفي رواية سعيد بن عامر: ((فانثال النَّاس)) بنون وثاء مثلثة؛ أي: قصدوه كلُّهم شيئاً بعد شيءٍ، وأصل النَّثل: الصَّب، يقال: نثل كنانته؛ أي: صبَّ ما فيها من السِّهام.
          (حَتَّى مَا أَرَى أَحَداً مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ) بسكون الفوقية (أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ) بفتح العين وكسر القاف وبالموحدة؛ أي: ولا يمشون خلفه، وهو كنايةٌ عن الإعراض (وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كرَّر هذه اللَّفظة لبيان سبب الميل، وهو قوله: (يُشَاوِرُونَهُ) في أمر الخلافة (تِلْكَ اللَّيَالِيَ) زاد الزُّبيدي في روايته عن الزُّهري: ((يشاورونه / ويناجونه تلك اللَّيالي لا يخلو به رجلٌ ذو رأي، فيعدل بعثمان أحداً)).
          (حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ) وفي رواية الكُشميهني: <تلك الليلة> (الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا) بسكون العين (عُثْمَانَ) أي: ابن عفَّان ☺ بالخلافة (قَالَ الْمِسْوَرُ) أي: ابن مخرمة: (طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) بفتح الهاء وسكون الجيم بعدها عين مهملة؛ أي: بعد قطعةٍ من اللَّيل، يقال: لقيته بعد هجعٍ من اللَّيل، والهجعُ والهجعةُ والهجوع والهجيع بمعنىً هذا الَّذي يُفهم من كلام القاضي، واقتصر عليه الزَّركشي.
          وقال صاحب «العين»: الهجوع: النَّوم باللَّيل خاصَّة، يقال: هَجَع يَهْجَع، وقومٌ هُجَّع وهُجُوع، ذكره أبو عبيد.
          وهذا يستدعي أن يكون قوله: ((من اللَّيل)) صفة كاشفةٌ بخلاف الأولى، فإنَّها فيها مخصِّصة، وهو أولى، كذا قال البدر الدَّماميني. وقال الحافظ العَسقلاني: وقد أخرجه البخاري في ((التَّاريخ)) بلفظ: ((بعد هَجِيع)) بوزن عظيم.
          (فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ) من النَّوم (فَقَالَ) لي: (أَرَاكَ نَائِماً، فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ) أي: ما دخل النَّوم في جفن عيني، كما يدخلها الكحلُ، وهذا كنايةٌ عن عدم النَّوم (هَذِهِ اللَّيْلَةَ) كذا في رواية المستملي، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحمويي والكُشميهني: <هذه الثَّلاث>، ويؤيِّده: رواية سعيد بن عامر: ((والله ما حملت فيهما غمضاً منذ ثلاث)).
          (بِكَبِيرِ نَوْمٍ) بالموحدة، وفي رواية أبي ذرٍّ: <بكثير نوم> بالمثلثة بدل الموحدة، ووقع في رواية يونس: ((ما ذاقت عيناي كثير نوم))، وهو مشعرٌ بأنَّه لم يستوعب الليل سهراً، بل نامَ لكن يسيراً منه (انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ) أي: ابن العوام (وَسَعْداً) أي: ابن أبي وقَّاص (فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا) بالشين المعجمة، من المشاورة، وفي رواية أبي ذرٍّ عن المستملي: <فسارَّهما> بالسين المهملة وتشديد الراء، وليس لطلحة هنا ذكرٌ، فلعلَّه كان شاوره قبلهما.
          (ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيّاً، فَدَعَوْتُهُ) له فجاء (فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ) بسكون الموحدة وتشديد الراء؛ أي: انتصف، وبهرة كلِّ شيءٍ: نصفه، وقيل: معظمه. وفي رواية سعيد بن عامر: ((فجعل يناجيه حتَّى ترتفعَ أصواتهما أحياناً فلا يخفى عليَّ شيءٌ ممَّا يقولان ويُخفيان أحياناً)) (ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ) أي: ابن أبي طالبٍ ☺ (مِنْ عِنْدِهِ وَهْوَ) أي: علي (عَلَى طَمَعٍ) أي: أن يولِّيه (وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئاً) أي: من المخالفة الموجبة للفتنة. وقال ابنُ هُبيرة: أظنُّه أشار إلى الدِّعاية الَّتي كانت في عليٍّ أو نحوها، ولا يجوز أن يُحملَ على أنَّ عبد الرَّحمن خافَ من عليٍّ على نفسه.
          قال الحافظ العَسقلاني: / والَّذي يظهرُ لي: أنَّه خاف أنَّه إن بايعَ لغيره أن لا يُطاوعه، وإلى ذلك الإشارة بقوله فيما بعد: ((فلا تجعلن على نفسك سبيلاً))، وفي رواية سعيد بن عامر: ((فأصبحنا وما أراه يبايع إلَّا لعلي))، يعني: ممَّا ظهرَ له من قرائن تقديمه.
          (ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ) فجاء (فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ) وفي رواية سعيد بن عامر: ((فخلا به ولا أفهمُ من قولهما شيئاً)) (فَلَمَّا صَلَّى الناسُ الصُّبْحَ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، وفي رواية غيره: <فلمَّا صلَّى للنَّاس الصُّبح> (وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ) الَّذين عيَّنهم عمر ☺ للمشورة (عِنْدَ الْمِنْبَرِ) في المسجد النَّبوي (فَأَرْسَلَ) أي: عبد الرَّحمن (إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِراً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ) معاوية أمير الشَّام، وعمر بن سعد أمير حمص، والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة، وأبو موسى الأشعري أمير البصرة، وعَمرو بن العاص أمير مصر؛ ليجمعَ أهل الحلِّ والعقد.
          (وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ) قدموا مكَّة فحجُّوا (مَعَ عُمَرَ) ☺، ورافقوهُ إلى المدينة (فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) وفي رواية عبد الرَّحمن بن طهمان: ((جلس عبد الرَّحمن على المنبر)) (ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ، إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ) أي: لا يجعلون له مساوياً بل يرجِّحونه على غيره (فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ) من اختياري لعثمان (سَبِيلاً) أي: من الملامة إذا لم توافق الجماعة، وهذا ظاهرٌ أنَّ عبد الرَّحمن لم يتردَّد عند البيعة في عثمان.
          فإن قيل: في رواية عَمرو بن ميمون التَّصريح بأنَّه بدأَ بعليٍّ فأخذَ بيده، فقال: ((لك قرابة رسول الله صلعم والقِدَمُ في الإسلامِ ما قد علمت، والله عليك لئن أمَّرتُك لتعدلنَّ، ولئن أمَّرتُ عثمان لتسمعنَّ ولتطيعنَّ))، ثمَّ خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلمَّا أخذ الميثاق قال: ((ارفع يدك يا عثمان))، فبايعه وبايعَ له علي ☺.
          فالجواب: أنَّ طريقَ الجمع بينهما: أنَّ عَمرو بن ميمون حفظ ما لم يحفظه الآخر، ويحتمل أن يكون الآخر حفظه، لكن طوى ذكره بعض الرُّواة، ويحتمل أن يكون وقع ذلك في اللَّيل؛ لمَّا تكلَّم معهما واحداً بعد واحدٍ، فأخذ على كلٍّ منهما العهد والميثاق، فلمَّا أصبحَ عرض على عليٍّ، فلم يوافقه على بعض الشُّروط من المبايعة على كتاب الله وسنَّة رسوله، وسيرة أبي بكر وعمر فقال: ((فيما استطعتُ))، وعرضها على عثمان فقبل.
          وإنَّما قال لعليٍّ ذلك دون من سواه؛ لأنَّ غيره لم يكن يطمع في الخلافة مع وجوده، ووجود عثمان، وسكوت من حضر من أهل الشُّورى / والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليلٌ على تصديقهم عبد الرَّحمن في ذلك، وعلى الرِّضى بعثمان.
          (فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ) أي: مخاطباً لعثمان ☺ (أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وسنة رسوله) كذا في رواية الكُشميهني، وفي رواية غيره: <ورسوله> (وَالْخَلِيفَتَيْنِ) أبي بكرٍ وعمر ☻ (مِنْ بَعْدِهِ) فقال عثمان: نعم بعد أن قال له: أبايعك...إلى آخره (فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ: الْمُهَاجِرُونَ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <والمهاجرون> بواو العطف، وهو عطف من الخاص على العام (وَالأَنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ) المذكورون (وَالْمُسْلِمُونَ) وهو من عطف العام على الخاص.
          وفي الحديث: أنَّ الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقدَ الخلافة لشخصٍ بعد المشاورة والاجتهاد، لم يكن لغيرهم أن يحلَّ ذلك العقد، إذ لو كان العقدُ لا يصحُّ إلَّا باجتماع الجميع؛ لكان لا معنى للتَّخصيص بهؤلاء السِّتة، فلمَّا لم يعترض منهم معترضٌ، بل رضوا دلَّ ذلك على صحَّته. وفيه أيضاً: أنَّ الشُّركاء في الشَّيء إذا وقع بينهم التَّنازع في أمرٍ من الأمور يسندون أمرهُم إلى واحدٍ؛ ليختار لهم بعد أن يُخرِجَ نفسه من ذلك الأمر.
          وفيه: أنَّ من أُسنِدَ إليه ذلك يبذلُ وسعه في الاختيار، ويهجرُ أهله وليله اهتماماً بما هو فيه حتَّى يُكْمِمَهُ.
          وذكر ابنُ المُنيِّر: في الحديث دليلٌ على أنَّ الوكيلَ المفوَّض له أن يوكِّلَ وإن لم يُنصَّ له على ذلك؛ لأنَّ الخمسة أسندوا الأمر لعبد الرَّحمن وأفردوهُ به، فاستقلَّ مع أنَّ عمر ☺ لم ينصَّ لهم على الانفراد له.
          تتمة: وأورده الدَّارقطني في «غرائب مالك» من طريق سعيد بن عامر عن جويرية: لمَّا طُعن عمر ☺ قيل له: استخلف، قال: وقد رأيتُ من حرصهم ما رأيتُ... إلى أن قال: هذا الأمر بين ستَّة رهطٍ من قريش، فذكرهم وبدأ بعثمان، ثمَّ قال: وعلي وعبد الرَّحمن بن عوف والزُّبير وسعد بن أبي وقَّاص، وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثاً، فإن قدم فهو شريكهم في الأمر، وقال: إنَّ النَّاس لن يعدوكم أيُّها الثَّلاثة، فإن كنتَ يا عثمانُ في شيءٍ من أمر النَّاس فاتَّق الله ولا تحملنَّ بني أميَّة، وبني أبي مُعَيط على رقاب النَّاس، وإن كنتَ يا عليُّ فاتَّق الله، ولا تحملنَّ بني هاشم على رقاب النَّاس، وإن كنت يا عبد الرَّحمن فاتَّق الله، ولا تحملنَّ أقاربك على رقاب النَّاس، ومن تأمَّر من غير أن يُؤمَّرَ فاقتلوه.
          هذا وكان طلحة غائباً في أموالهِ بالسَّرَاة وهو _بفتح المهملة وتخفيف الراء_: بلادٌ معروفةٌ بين الحجاز والشَّام.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرةٌ. /