نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: متى يستوجب الرجل القضاء؟

          ░16▒ (باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ) أي: متى يستحقُّ أن يكون قاضياً. وقال الكِرمانيُّ: أي: متى يصير أهلاً للقضاء، أو متى يجب عليه القضاء؟ قال أبو عليٍّ الكرابيسيّ في كتاب «أدب القضاء» له: لا أعلم بين العلماء ممَّن سلف خلافاً أنَّ أحقّ النَّاس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، وأن يكون قارئاً لكتاب الله، عالماً بأكثر أحكامه، عالماً بسنن رسول الله، حافظاً لأكثرها، وكذا أقوال الصَّحابة عالماً بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التَّابعين / يعرف الصَّحيح من السَّقيم، يتبع في النَّوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسُّنن، فإن لم يجد عمل بما اتَّفق عليه الصَّحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثمَّ بالسُّنّة، ثمَّ بفتوى أكابر الصَّحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم مع فضلٍ وورعٍ، ويكون حافظاً للسانه وبطنه وفرجه، فهماً بكلام الخصوم، ثمَّ لا بدَّ أن يكون عاقلاً مائلاً عن الهوى.
          ثمَّ قال: وهذا وإن كنَّا نعلم أنَّه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصِّفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كلِّ زمانٍ أكملهم وأفضلهم. وقال المهلَّب: لا يكفي في استيجاب القضاء أن يرى نفسه أهلاً لذلك، بل أن يراه النَّاس أهلاً لذلك. وقال ابن حبيب عن مالكٍ: لا بدَّ أن يكون القاضي عالماً عاقلاً. قال ابن حبيبٍ: فإن لم يكن علم فعقلٌ وورعٌ؛ لأنَّه بالورع يقفُ، وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجَده، وإذا طلبَ العقل لم يجده.
          قال ابن العربيِّ: واتَّفقوا على أنَّه لا يشترط أن يكون غنيًّا، والأصل قوله تعالى: {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247]، قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة:247] الآية.
          قال: والقاضي لا يكون في حكم الشَّرع إلَّا غنيًّا؛ لأنَّ غناه في بيت المال، فإذا منعَ من بيت المال واحتاج، كان تولية من يكون غنيّاً أولى من توليةِ من يكون فقيراً؛ لأنَّه يصير في مظنَّة من يتعرَّض لتناول ما لا يجوز له تناوله.
          قال الحافظ العسقلانيُّ: وهذا الَّذي قاله بالنِّسبة إلى الزَّمان الَّذي كان فيه، ولم يدرك زماننا هذا الَّذي صار من يطلب القضاء فيه يصرِّح بأنَّ سبب طلبه الاحتياج إلى ما يقوم به شأنه، مع العلم بأنَّه لا يحصل له شيءٌ من بيت المال.
          واتَّفقوا على اشتراط الذُّكورة في القاضي، إلَّا عن الحنفيَّة فاستثنوا الحدود. وأطلق ابن جرير، وحجَّة الجمهور: الحديث الصَّحيح: ((ما أفلح قومٌ ولَّوا أمورهم امرأة)) ولأنَّ القاضي يحتاج إلى كمال الرَّأي، ورأي المرأة ناقصٌ، ولا سيما في محافل الرِّجال.
          وقال أكثر الشَّافعيَّة: الشَّرط كونه أهلاً للشَّهادة بأن يكون مسلماً مكلّفاً، حرّاً ذكراً، عدلاً، سميعاً، بصيراً، ناطقاً، كافياً لأمر القضاء، فلا يولّاه كافرٌ وصبيٌّ ومجنون، ومن به رقٌّ، وأنثى، وخنثى، وفاسقٌ، ومن لم يسمع، وأعمى، وأخرس، وإن فهمت إشارته، ومغفَّل، ومختل النَّظر بكبر، أو مرض، لنقصهم، وأن يكون مجتهداً.
          وهو العارف بأحكام القرآن والسُّنّة، وبالقياس، وأنواعها.
          فمن أنواع القرآن والسُّنّة: العامُّ والخاصُّ، والمجمل والمبيَّن، والمطلق والمقيَّد، / والنَّصّ والظَّاهر، والنَّاسخ والمنسوخ.
          ومن أنواع السُّنة: المتواتر، والآحاد، والمتَّصل وغيره.
          ومن أنواع القياس: الأولى والمساوي والأدون، كقياس الضَّرب للوالدين على التَّأفيف لهما، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التَّحريم، وقياس التُّفاح على البرِّ في الرِّبا بجامع الطَّعم.
          وحال الرُّواة قوَّة وضعفاً.
          فيقدِّم عند التَّعارض الخاصّ على العامِّ، والمقيَّد على المطلق، والنَّصّ على الظَّاهر، والمحكم على المتشابه، والنَّاسخ، والمتَّصل، والقويُّ، على مقابلها.
          ولسان العرب لغة نحواً وصرفاً، وأقوال العلماء إجماعاً واختلافاً، فلا يخالفهم في اجتهادٍ.
          فإن فقد الشَّرط المذكور بأن لم يوجد رجلٌ متّصفٌ به، فولي سلطان ذو شوكة مسلماً غير أهل كفاسقٍ ومقلّد وصبيّ وامرأة نفذ قضاؤه للضَّرورة؛ لئلَّا تتعطَّل مصالح النَّاس، ذكره الإمام القسطلانيُّ.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ) هو: البصريُّ (أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ) بضمّ الحاء المهملة وتشديد الكاف جمع حاكم؛ أي: ألزم الله عليهم (أَنْ لاَ يَتَّبِعُوا الْهَوَى) أي: هوى النَّفس، وهو ما تحبُّه وتشتهيه في قضائهم، من هَوِيَ يهوَى من باب عَلِم يَعلَم، والنَّهي عن اتِّباع الهوى أمر بالحكم بالحقِّ. (وَلاَ يَخْشَوُا النَّاسَ)كخشية سلطانٍ ظالمٍ، أو خيفة أذيَّة أحد، وفي النَّهي عن خشيتهم أمر بخشية الله، ومن لازم خشية الله الحكم بالحقِّ.
          (وَلاَ يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ) كذا في رواية أبي ذرٍّ، ويروى: <بآياتي> (ثَمَناً قَلِيلاً) وهو الرِّشوة، وابتغاء الجاه، ورضا النَّاس، وفي النَّهي عن بيع آياته الأمر باتِّباع ما دلَّت عليه، وإنَّما وصف الثَّمن بالقلَّة إشارةً إلى أنَّه وصف لازم له بالنِّسبة للعوض، فإنَّه أعلى من جميع ما حوته الدُّنيا (ثُمَّ قَرَأَ) الحسن: ({يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]) أي: صيَّرناك خلفاً عمَّن كان قبلك في الأرض؛ أي: على المُلك من الأرض كمَن يستخلفه بعض السَّلاطين على بعضِ البلاد، ويملّكه عليها يدبِّر أمر النَّاس.
          ({فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}) أي: بالعدل الَّذي هو حكم الله ({وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى}) أي: ما تهوى النَّفس، ولا تَمِلْ مع ما تشتهي، إذا خالفَ أمر الله تعالى ({فَيُضِلَّكَ}) أي: الهوى، وهو منصوبٌ على الجواب، وقيل: مجزوم عطفاً على النَّهي، وفتح اللام لالتقاء السّاكنين.
          ({عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}) أي: عن الدَّلائل الدَّالَّة الَّتي نصبها في عقولهم على توحيد الله، أو عن الشَّرائع الَّتي شرعها، وأوحى بها / ({لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا}) أي: بسبب نسيانهم ({يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26]) المرتَّب عليه تركهم الإيمان، ولو أيقنوا بيوم الحساب لآمنوا في الدُّنيا و{يَوْمَ} متعلِّق بقوله: {نَسُوا}، أو بقوله: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص:26] بنسيانهم وهو ضلالهم عن سبيل الله.
          قال ابن كثيرٍ: هذه وصيَّة من الله ╡ لولاة الأمور أن يحكموا بين النَّاس بالحقِّ المنزَّل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلُّوا عن سبيله، وقد توعَّد تعالى من ضلَّ عن سبيله، وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد، والعذاب الشَّديد.
          (وَقَرَأَ) أي: الحسن أيضاً ({إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة:44]) أي: بيان ونور الفتيا الكاشف للشُّبهات، وذلك أنَّ اليهود استفتوا النَّبيّ صلعم في أمر الزَّانِيَيْنِ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، والمعنى: إنَّ فيها هدًى يهدي إلى الحقِّ، ونوراً يكشف ما استَبْهَمَ من الأحكام.
          ({يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة:44]) وصفهم بالإسلام، لا على أنَّ غيرهم من النَّبيّيْنَ ليسوا بمسلمين، وهو كقوله: {النَّبي الأمِّي الَّذي يؤمن بالله} [الأعراف:158]، لا أنَّ غيره لم يؤمن بالله. وقيل: أراد الَّذين انقادوا لحكم الله، لا الإسلام الَّذي هو ضدُّ الكفر، وقيل: أسلموا أنفسهم لله، وقيل: بما في التَّوراة.
          والحاصل: أنَّه صفةٌ أجريت على سبيل المدح.
          ({لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44]) أي: تابوا من الكفر، قاله ابن عبَّاس ☻ ، وقال الحسن: هم اليهود، ويجوز أن يكون فيها تقديمٌ وتأخيرٌ؛ أي: للَّذين هادوا يحكم بها النَّبيّون ({وَالرَّبَّانِيُّونَ}) أي: العلماء الحكماء، وهو جمع ربَّانيّ، وأصله: ربُّ العلم، والألف والنّون فيه للمبالغة. وقال مجاهدٌ: هم فوق الأحبار.
          ({وَالأَحْبَارُ}) أي: العلماء؛ لأنَّهم يحبّرون الشَّيء وهو في صدورهم محبّرٌ، وهما معطوفان على قوله: {النَّبيون} ({بِمَا اسْتُحْفِظُوا}) أي: (اسْتُودِعُوا {مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}) هذا تفسير أبي عبيدة، وقد ثبت هذا للمستمليِّ. يقال: استحفظه كذا؛ أي: استودعه إيَّاه، ومن للتَّبيين، والضَّمير في {استحفظوا} للنَّبيّين والرَّبانيّين والأحبار، والاستحفاظ من الله؛ أي: كلَّفهم الله حفظه.
          (وَكَانُوا عَلَيْهِ) أي: على الكتاب، أو على ما في التَّوراة (شُهَدَاءَ) رقباء لئلَّا يبدل ({فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}) أي: في إظهار صفة النَّبيّ ╧، واخشون في كتمان صفته، والخطاب لعلماء اليهود، وقيل: ليهود المدينة بأن لا تخشوا يهود خَيبر. وقيل: نهي للحكَّام عن خشيتهم غيرَ الله في حكوماتهم، ويداهنوا فيها خشية ظالمٍ أو كبيرٍ.
          ({وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}) أي: لا تستبدلوا بأحكامي وفرائضي الَّتي أنزلتها / وقيل: بصفة النَّبيّ صلعم ({وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}) أي: مستهيناً به ({فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]) قال ابن عبَّاسٍ ☻ : من لم يحكم جاحداً فهو كافرٌ، وإن لم يكن جاحداً فهو فاسقٌ ظالمٌ. ووقع في بعض النُّسخ قوله: <{بِمَا اسْتُحْفِظُوا} استودعوا {من كتاب الله} [المائدة:44]>.
          (وَقَرَأَ) أي: الحسن أيضاً: ({وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء:78]) أي: واذكرهما ({إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}) أي: الزَّرع. وأخرج عبد الرَّزَّاق بسندٍ صحيحٍ عن مسروق قال: كان حرثهم عنباً ({إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}) أي: رعته ليلاً بلا راعٍ، يقال: نَفَشَتْ الدَّابّة تنفش نفوشاً: إذا رعت ليلاً بلا راعٍ، وهَمَلَتْ: إذا رعت نهاراً بأنِ انفلتتْ، فأكلته فأفسدته. فتحاكم أصحابُ الحرث، وأصحابُ الغنم عند داود ◙، فقضَى بالغنمِ لأصحاب الحرث، فمرُّوا بسليمان ◙ فأخبروه الخبر، فقال سليمان: لا، ولكن أقضي بينهم: أن يأخذوا الغنم، فيكون لهم لبنُها وصوفُها وسمنُها ومنفعتُها.
          والحاصل: أنَّ داود ◙ كان قد حكم بالغنم لأهل الحرث، وكانت قيمة الغنم على قدر النُّقصان في الحرث، فقال سليمان ◙ وهو ابن إحدى عشرة سنةٍ: غير هذا أرفق بالفريقين. فقال: أرى أن تدفعَ الغنم إلى أهل الحرثِ ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى ربِّ الغنم، ويقوم هؤلاء على حرثهم حتَّى إذا عاد كما كان ردُّوا عليهم غنمهم، فدخل أصحاب الغنم على داود، فأخبروه فأرسل إلى سليمان، فعزم عليه بحقِّ النُّبوّة والمُلك والولد كيف رأيت فيما قضيت؟ فقال: عَدَلَ المَلِكُ وأحسن، وغيرُه كان أرفق بهما جميعاً، قال: ما هو خيرٌ؟ فأخبره بما حكم به، فقال داود ◙: نعم ما قضيتَ.
          ({وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ}) أرادهما والمتحاكمين، أو استعمل ضميرَ الجمع لاثنين ({شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78]) بعلمنا ومرأى منَّا ({فَفَهَّمْنَاهَا} [الأنبياء:79]) أي: الحكومة والقضيَّة ({سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ}) أي: من داود وسليمان ({آتَيْنَا}) أي: أعطينا ({حُكْماً}) نبوَّة ({وَعِلْماً} [الأنبياء:79]) أي: معرفةً بموجب الحكم.
          قال الحسن: (فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ) أي: أثنى الله عليه لموافقته الأرجح (وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ) بفتح التّحتيّة وضمّ اللّام من اللَّوم؛ لموافقته الرَّاجح. وقال العينيُّ: وفي نسخةٍ: <ولم يذم> من الذَّمِّ. قيل: قول الحسن البصريِّ: ولم يذم داود أنَّ فيه نقصاً لحقِّ داود ◙، وذلك أنَّ الله تعالى قال: {وَكُلّاً آَتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فجمعهما في الحكم والعلم، وميَّز سليمان بالفهم، وهو علمٌ خاصٌّ زاد على العامِّ بفصل الخصومة.
          والأصحُّ: أنَّ داود أصاب الحكم، وسليمان أرشد إلى الأصلح، وقيل: إلى الصُّلح، وقيل: الاختلاف بين الحكمين في الأولويَّة.
          قال / الحسن: (وَلَوْلاَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ) النَّبيين ♂ (لَرَأَيْتُ) بفتح الهمزة والرّاء، واللّام فيه للتأكيد، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ: <لرُئِّيْت> بضمّ الرّاء وكسر الهمزة المشدّدة بعدها تحتيّة ساكنة على البناء للمفعول، وسقط في رواية أبي ذرٍّ لفظ: <أمر>.
          (أَنَّ الْقُضَاةَ) أي: قضاة زمنه (هَلَكُوا) لما تضمَّنه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ودخل في عمومه العامد والمخطئ.
          (فَإِنَّهُ) تعالى (أَثْنَى عَلَى هَذَا) أي: سليمان ◙ (بِعِلْمِهِ وَعَذَرَ هَذَا) أي: داود ◙ (بِاجْتِهَادِهِ) فاستدلَّ بقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] الآية، أنَّ الوعيد خاصٌّ بالعامَّة، وأشار إلى ذلك بقوله: ((فإنَّه أثنى...إلى آخره)).
          واستدلَّ بهذه القصَّة: على أنَّ للنَّبيِّ ◙ أن يجتهدَ في الأحكام، ولا ينتظر نزول الوحي؛ لأنَّ داود ◙ اجتهدَ في المسألة المذكورة قطعاً؛ لأنَّه لو كان قضى بالوحي ما خصَّ الله سليمان ◙ بفهمها دونه. وقد اختلف من أجاز للنَّبيِّ أن يجتهدَ هل يجوز عليه الخطأ في اجتهاده؟ فاستدلَّ من أجاز ذلك بهذه القصَّة، وقد اتَّفق الفريقان على أنَّه لو أخطأَ في اجتهاده لم يُقَرّ على الخطأ. وأجاب من منع الاجتهاد: أنَّه ليس في الآية دليلٌ على أنَّ داود ◙ اجتهد ولا أخطأ، وإنَّما ظاهرها أنَّ الواقعة اتَّفقت فعرضت على داود وسليمان، فقضى فيها سليمان؛ لأنَّ الله فهّمه حكمها ولم يقضِ فيها داود بشيءٍ.
          ويردُّ على من تمسَّك بذلك ما ذكره أهل النَّقل في صورة هذه الواقعة، وقد تضمَّن أثر الحسن المذكور أنَّهما جميعاً حكما، وأثر الحسن في «أمالي القبولي» من طريق حمَّاد بن سلمة، عن حميد الطَّويل قال: دخلنا مع الحسن على إياس بن معاوية حين استُقضي، قال: فبكى إياس، وقال: يا أبا سعيدٍ يعني: الحسن البصريُّ يقولون: القضاة ثلاثةٌ: رجل اجتهد فأخطأ فهو في النَّار، ورجلٌ مال مع الهوى فهو في النَّار، ورجلٌ اجتهدَ فأصاب فهو في الجنَّة؟ فقال الحسن: إنَّ فيما قصَّ الله عليك من نبأ سليمان ما يردّ على من قال هذا، وقرأ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إلى قوله: {شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] قال: فحُمد سليمان لصوابه، ولم يذمّ داود لخطئه.
          والحديث الَّذي أشار إليه إياس، أخرجه أصحاب «السّنن» من حديث بُريدة، ولكن عندهم الثَّالث قضى بغير علمٍ.
          (وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ) بضمّ الميم وفتح الزّاي المخفّفة وبعد الألف حاء مهملة، وزُفَر: بضمّ الزّاي وفتح الفاء الكوفيّ، وهو ممَّن أخرج له مسلم (قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) أي: ابن مروان الأمويُّ المعدود / من الخلفاء الرَّاشدين (خَمْسٌ) أي: خمس خصالٍ (إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً) أي: تجاوز وفات من الخمس خصلةٌ. وقال الكِرمانيُّ: ويُروى: ((منهم)) أي: من القضاة، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الحموي والمستملي: <خُطَّة> بخاء معجمة مضمومة وطاء مهملة مفتوحة مشدّدة، وهما بمعنىً.
          (كَانَتْ) وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <كان> (فِيهِ وَصْمَةٌ) بفتح الواو وسكون الصّاد المهملة بوزن تمرةٌ؛ أي: عيبٌ وعارٌ (أَنْ يَكُونَ فَهِماً) بكسر الهاء، وفي رواية المستمليِّ: <فقيهاً>، والأُولى أولى. قيل: هو من صيغ المبالغة، بل هو من الصِّفات المشبَّهة.
          وقوله: ((أن يكون...إلى آخره)) تفسيرٌ لحال القاضي، وهو في محلِّ الرَّفع على الخبريَّة، تقديره: وهي أن يكون.
          (حَلِيماً) يعني: على من يؤذيه ولا يبادرُ بالانتقام، وقيل: الحلم هو الطُّمأنينة، يعني: يكون متحملاً لسماع كلام المتحاكمين واسع الخلق، غير ضجورٍ ولا غضوب (عَفِيفاً) أي: يكفُّ عن الحرام، فإنَّه إذا كان عالماً ولم يكن عفيفاً كان ضرره أشدَّ من ضررِ الجاهل، وقيل: العفَّة: النَّزاهة عن القبائح؛ أي: لا يأخذ الرِّشوة بصورة الهديَّة، ولا يميل إلى ذي جاهٍ ونحوه.
          (صَلِيْباً) بفتح المهملة وكسر اللَّام مخفّفة وبعد التّحتيّة السّاكنة موحّدة، بوزن عظيمٍ من الصَّلابة؛ أي: قويًّا شديداً، يقف عند الحقِّ ولا يميل مع الهوى، ويستخلصُ حقّ المحقِّ من المبطل، ولا يتهاون فيه ولا يحاميه، ولا ينافي هذا قوله: ((حليماً)) لأنَّ ذاك في حقِّ نفسه، وهذا في حقِّ غيره.
          (عَالِماً) بالحكم الشَّرعيِّ، ويدخل فيه قوله: فهماً فقيهاً؛ فهو أولى من فقيهاً، كما مرَّ (سَؤُولاً) على وزن فعول؛ أي: كثير السُّؤال (عَنِ الْعِلْمِ) مذاكراً مع أهل العلم؛ لأنَّه ربَّما يظهر له من غيره ما هو أقوى ممَّا عنده. وهذا الأثر وصله سعيد بن منصورٍ في «السّنن» عن عبَّاد بن عباد، ومحمد بن سعدٍ في «الطّبقات» عن عفَّان، كلاهما قال: حدَّثنا مزاحم بن زُفر، قال: قدمنا على عمر بن عبد العزيز وفداً من أهل الكوفة، فسألنا عن بلادنا وقاضينا وأمره، وقال: خمسٌ إذا أخطأ.
          وروى محمد بن سعد من طريق يحيى بن سعيدٍ، عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتَّى يكون فيه خمس خصالٍ: عفيف حليمٌ عالم بما كان قبله يستشير ذا الرَّأي لا يبالي بملامة النَّاس.
          وعن الشَّعبيّ قال: من سرَّه أن يأخذَ بالوثيقة من القضاء، فليأخذ بقضاء عمر، فإنَّه كان يستشير.