نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد؟

          ░40▒ (باب: تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ) بصيغة الجمع، وفي رواية الكُشميهني: <ترجمة الحاكم> بالإفراد، والتَّرجمة تفسير الكلام بلسانٍ غير لسانه، يقال: ترجم كلامه: إذا فسَّره بلسانٍ آخر (وَهَلْ يَجُوزُ تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ) / بفتح الفوقية وضمها، والجمع: التَّراجم، وإنَّما ذكره بلفظ الاستفهام؛ لأجل الاختلاف فيه، فعند أبي حنيفة وأحمد: يكتفي بواحد، واختاره البخاريُّ وابنُ المنذر وآخرون، وقال الشَّافعي وأحمد _في الأصح عنه_: إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم لا يقبلُ فيه إلَّا عدلان كالشَّهادة.
          وقال أشهب وابن نافع عن مالك، وابن حبيب عن مطرِّف، وابن الماجشون: إذا اختصمَ إلى القاضي من لا يتكلَّم بالعربيَّة، ولا يفقه كلامه، فليترجم له عنه ثقة مسلم مأمون، واثنان أحبُّ إلي، والمرأة تُجزئ، ولا يقبل ترجمة كافرٍ، وشرط المرأة عند من يراه أن تكون عدلة، ولا يترجم من لا يجوز شهادته.
          7195- (وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ) أبيه (زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) ☺ (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ) أي: كتابتهم؛ يعني: خطَّهم، وفي رواية أبي ذرٍّ عن الكُشميهني: <كتاب اليهوديَّة> بياء النسبة (حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلعم كُتُبَهُ) إليهم (وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ) الَّتي يكتبونها (إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ) وهذا التَّعليق من الأحاديث الَّتي لم يخرجها البخاري إلَّا معلقة.
          وقد وصله مطولاً في كتاب «التَّاريخ» عن إسماعيل بن أبي أويس: حدَّثني عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد قال: أُتِي بي النَّبي صلعم مقدمه المدينة، فأُعجب بي فقيل له: هذا غلامٌ من بني النَّجار قد قرأ فيما أنزل الله عليك بضع عشرة سورةً، فاستقرأني فقرأت: {ق} [ق:1] فقال لي: ((تعلَّم كتاب يهود، فإنِّي ما آمن يهود على كتابي)) فتعلَّمته في نصف شهرٍ حتَّى كتبت له إلى يهود، وأقرأتُ له إذا كتبوا إليه. وفي رواية: ((فما مرَّ بي خمس عشرة ليلةً حتَّى تعلَّمته))، أخرجه أبو داود والتِّرمذي من رواية عبد الرَّحمن بن أبي الزِّناد. وقال التِّرمذي: حسنٌ صحيح، وقد رواه الأعمش عن ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابتٍ: أنَّ النَّبي صلعم أمره أن يتعلَّم السِّريانية.
          ويمكن أن يتَّحد مع قصَّة خارجة: بأنَّ مِنْ لازم تعلَّم كتابة اليهود تعلُّم لسانهم، ولسانُهم السِّريانية، لكن المعروف: أنَّ لسانهم العبرانيَّة، فيحتمل أنَّ زيداً تعلَّم اللسانين لاحتياجه إلى ذلك.
          (وَقَالَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ) أي: ابن أبي طالبٍ (وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ) أي: ابن عوف (وَعُثْمَانُ) أي: ابن عفَّان ♥ (مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟) أشار بقوله: ((هذه)) إلى امرأة كانت حاضرة عندهم (قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ) بالحاء والطاء المهملتين بينهما ألف آخره موحدة، ابن أبي بلتعة مترجماً عنها لعمر ☺ / عن قولها: إنَّها حملت من زنى من عبدٍ اسمه: برغوس _بالراء والغين المعجمة والسين المهملة_ وهي كانت نُوْبِيَّة _بضم النون وسكون الواو وكسر الموحدة وتشديد التحتية_ أعجميَّة من جملة عتقاء حاطب.
          (فَقُلْتُ): يا أمير المؤمنين (تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهِمَا الَّذِي صَنَعَ بِهِمَا) وهذا التَّعليق وصله عبد الرَّزاق، وسعيد بن منصور من طرق عن يحيى بن عبد الرَّحمن بن حاطب عن أبيه نحوه (وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ) بالجيم والراء، واسمه: نصرُ بن عمران الضُّبعي البصري (كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (وَبَيْنَ النَّاسِ) وزاد النَّسائي فيما وصله عنده: ((فأتته امرأةٌ فسألته عن نبيذِ الجرِّ، فنهى عنه)) الحديث، وقد مضى في ((كتاب العلم)) عند المؤلِّف [خ¦87].
          (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمِيْنِ) بكسر الميم بصيغة الجمع. قال ابن قُرْقول: لأنَّه لا بدَّ له عمَّن يتكلَّم بغير لسانه، وذلك يتكرَّر فيتكرَّر المترجمون، وروي: بفتح الميم بصيغة التثنية.
          قال الحافظ العَسقلاني: وهو المعتمدُ، قال الكرماني: قال مُغْلطاي المصري: كأنَّه يريدُ ببعض النَّاس: الشَّافعيَّ، وهو ردٌّ لقول من قال: إنَّ البخاري إذا قال: ((بعضُ النَّاس))، أراد به أبا حنيفة.
          ثمَّ قال الكرماني: أقول: غرضُهم بذلك غالب الأمر، أو في موضع تشنيع عليه وقبح الحال، أو أراد به هاهنا بعضَ الحنفيَّة؛ لأنَّ محمَّد بن الحسن قال: بأنَّه لا بدَّ من اثنين، غاية ما في الباب: أنَّ الشَّافعي أيضاً قائلٌ به، لكن لم يكن مقصوداً بالذَّات. انتهى.
          وقال الحافظ العسقلاني: المراد بـ((بعض النَّاس)): محمَّد بن الحسن؛ فإنَّه الَّذي اشترط أنْ لا بدَّ في التَّرجمة من اثنين، ونزلها منزلة الشَّهادة.
          ووافقه الشَّافعي، فتعلَّق بذلك مغلطاي فقال: فيه ردٌّ لقول من قال: إنَّ البخاري إذا قال: ((بعض النَّاس))، يريد الحنفيَّة؛ لأنَّ محمداً قائلٌ بذلك، ولا يمنع ذلك أن يوافقه الشَّافعي، كما لا يمنع أن يوافقَ الحنفيَّة في غير هذه المسألة بعض الأئمَّة.