نجاح القاري لصحيح البخاري

باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء

          ░21▒ (بابُ) حكم (الشَّهَادَةِ) أي: الَّتي (تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي) زمان (وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءِ) وفي رواية أبي ذرٍّ: <في ولاية القضاء> (أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ) أي قبلَ ولايته القضاء (لِلْخَصْمِ) متعلِّق بالشَّهادة؛ أي: للخصم الَّذي هو أحد الخصمين هل له أن يحكمَ بها على خصمهِ بعلمه ذلكَ، أو يشهد له عند حاكمٍ آخر؟ اختلفوا في أنَّ له ذلك أم لا؟ فلذلك لم يجزم بالجواب؛ لقوَّة الخلاف في المسألة، وإن كان آخر كلامه يقتضي اختيار أن لا يحكمَ بعلمه فيها، وبيان الخلاف فيه يأتي عن قريبٍ إن شاء الله تعالى.
          (وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ) على شيءٍ كان أشهده عليه، ثمَّ جاء فخاصم إليه (فَقَالَ) له شريحٌ، وفي رواية أبي ذرٍّ: <قال> (ائْتِ الأَمِيرَ) أي: السُّلطان أو من هو فوقه (حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ) عليه عنده، ولم يحكم فيها بعلمه. وصله سفيان الثَّوري في «جامعه» عن عبد الله بن شبرمة، عن الشَّعبي قال: أشهدَ رجلٌ شريحاً، ثمَّ جاء فخاصم إليه، فقال: ائت الأمير، فأنا أشهدُ لك.
          وأخرجه عبد الرَّزَّاق، عن ابن عُيينة، عن ابن شبرمة قال: قلت للشَّعبي: يا أبا عمرٍو أرأيت رجلين استشهدا على شهادةٍ، فمات أحدهما، واستُقضيَ الآخر، فقال: أُتيَ شريح فيها وأنا جالس فقال: ائتِ الأمير، وأنا أشهد لك.
          (وَقَالَ عِكْرِمَةُ) مولى ابن عبَّاسٍ ☻ : (قَالَ عُمَرُ) أي: ابن الخطَّاب ☺ (لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) وكان عند عمر شهادةٌ في آية الرَّجم، وهي: ((الشَّيخ والشَّيخة إذا زنيا فارجموهما نكالاً من الله)) أنَّها من القرآن، فلم يُلحقها في المصحف بشهادتهِ وحده (لَوْ رَأَيْتَ) بفتح التاء (رَجُلاً عَلَى حَدٍّ زِناً أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ) أكنت تقيمهُ عليه؟ قال: لا حتَّى يشهد معي غيري.
          (فَقَالَ) عمر لعبد الرَّحمن: (شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ) واحدٍ (مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ عُمَرُ) ☺ مفصحاً بالعلَّة؛ لكونه لم يُلحِق آية الرَّجم بالمصحف بمجرَّد علمه وحده (لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ. لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي).
          قال المهلَّب: استشهد البخاريُّ بقول عبد الرَّحمن بن عوفٍ المذكور قبله بقول عمر ☺ هذا، أنَّه كانت عنده شهادتهُ في آية الرَّجم أنَّها من القرآن، فلم يلحقها بنصِّ المصحف بشهادته وحده، وأفصح بالعلَّة في ذلك بقوله: ((لولا أن يقول النَّاس...إلى آخره)).
          فأشار إلى أنَّ ذلك من قطع الذَّرائع؛ لئلَّا يجد حكَّام السُّوء السَّبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبُّوا له الحكم بشيءٍ، أخرجه ابنُ أبي شيبة عن شريك عن عبد الكريم الجزريِّ عن عكرمة بلفظ: ((أرأيت لو كنتَ القاضي / أو الوالي، وأبصرتَ إنساناً على حدٍّ أكنت تقيمه عليه؟ قال: لا حتَّى يشهد معي غيري، قال: أصبتَ لو قلتَ غير ذلك لم تُجِدْ)) بضم المثناة من فوق وكسر الجيم وسكون الدال من الإجادة، وهذا السَّند منقطعٌ؛ لأنَّ عكرمة لم يدرك عبد الرَّحمن فضلاً عن عمر ☻ .
          (وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم بِالزِّنَا أَرْبَعاً) أي: أقرَّ أربع مرَّاتٍ (فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ) بإقراره (وَلَمْ يُذْكَرْ) بضم التحتية وفتح الكاف (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَشْهَدَ) على ماعزٍ (مَنْ حَضَرَهُ). وقد سبق موصولاً في غير ما موضعٍ [خ¦6824] [خ¦6825]، وأشار به إلى الرَّدِّ على من قال: لا يقضي بإقرار الخصم حتَّى يدعوَ شاهدين يحضرانِ إقراره.
          (وَقَالَ حَمَّادٌ) هو: ابنُ أبي سليمان فقيهُ الكوفة (إِذَا أَقَرَّ) أي: زانٍ (مَرَّةً) واحدةً (عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ) بغير بيِّنة ولا إقرارٍ أربعاً (وَقَالَ الْحَكَمُ) بفتحتين، ابن عُتَيبة، مصغَّر عَتْبة الباب، فقيه الكوفة أيضاً: لا يُرجم حتَّى يقرَّ (أَرْبَعاً) أي: أربع مرَّاتٍ. وصل القولين ابن أبي شَيبة من طريق شعبة، قال: سألت حماداً عن الرَّجل يقرُّ بالزِّنا كم يُردَّ؟ قال: مرَّة، قال: وسألت الحكم، فقال: أربع مرَّاتٍ.