إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أنه ذكر رجلًا فيمن سلف أعطاه الله مالًا وولدًا

          7508- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ) البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) قال: (سَمِعْتُ أَبِي) سليمان بن طرخان التَّيميَّ البصريَّ قال: (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ) بن دعامة (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الغَافِرِ) الأزديِّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالكٍ الخدريِّ ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم : أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا) لم يُسَمَّ (فِيمَنْ سَلَفَ) في جملتهم (أَوْ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أي: في بني إسرائيل، والشَّكُّ من الرَّاوي، وللأَصيليِّ: ”قبلهم“ «بالهاء» بدل: «الكاف» (قَالَ) ╕ : (كَلِمَةً يَعْنِي) معنى الكلمة: (أَعْطَاهُ اللهُ) ╡ وسبق في «بني إسرائيل» [خ¦3478]: «رَغَسَه اللهُ» وهو معنى «أعطاه الله» (مَالًا وَوَلَدًا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الوَفَاةُ(1)) أي: حضرته الوفاة، ولأبي ذرٍّ: ”فلمَّا حضره الوفاة“ (قَالَ لِبَنِيهِ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ) قال أبو البقاء: هو بنصب «أيٍّ» على أنَّه خبر «كنت» وجاز تقديمه لكونه استفهامًا، ويجوز الرَّفع، قلت: وهو الذي في الفرع وصُحِّح عليه، و«خير أبٍ» قال أبو البقاء: الأجود فيه النَّصب على تقدير: كنتَ خيرَ أبٍ، فيوافق(2) ما هو جوابٌ عنه، ويجوز الرَّفع بتقدير: أنت خيرُ أبٍ (قَالَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ) بفتح التَّحتيَّة وسكون الموحَّدة وفتح الفوقيَّة بعدها همزةٌ مكسورةٌ فراءٌ مهملةٌ، قال في «المصابيح»(3): وهو المعروف في اللُّغة (أَوْ) قال: (لَمْ يَبْتَئِزْ) «بالزَّاي المعجمة» بدل: «الرَّاء المهملة»، وقال في «المطالع»: وقع للبخاريِّ في «كتاب التَّوحيد» على الشَّكِّ في الرَّاء والزَّاي، وفي بعضها: ”لم(4) يأتبر“ أي: لم يقدِّم (عِنْدَ اللهِ خَيْرًا) ليس المراد نفي كلِّ خيرٍ على العموم، بل نفي ما عدا التَّوحيد / ولذلك غُفِر له، وإلَّا فلو كان التَّوحيد منتفيًا أيضًا لتحتَّم عقابه سمعًا ولم يُغفَر له (وَإِنْ يَقْدِرِ اللهُ)‼ يضيِّق الله (عَلَيْهِ يُعَذِّبْهُ) بالجزم، وسقط «عليه» لأبي ذرٍّ والأَصيليِّ (فَانْظُرُوا إِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي) بهمزة قطعٍ(5) (حَتَّى إِذَا صِرْتُ فَحْمًا فَاسْحَقُونِي _أَوْ قَالَ: فَاسْحَكُونِي_) بالكاف بدل القاف وهما بمعنًى والشَّكُّ من الرَّاوي (فَإِذَا كَانَ يَوْمُ رِيحٍ عَاصِفٍ فَأَذْرُونِي فِيهَا) بهمزة قطعٍ وبإسقاطها في «اليونينيَّة» وبمعجمةٍ، يُقال: ذرى الرِّيحُ الشَّيءَ وأذرته: أطارته وأذهبته (فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلعم : فَأَخَذَ مَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَرَبِّي) قَسَمٌ من المخبر بذلك عنهم تأكيدًا لصدقه، وإن كان محقَّق الصِّدق صادقًا قطعًا (فَفَعَلُوا) ما قال لهم، وأخذ عليهم مواثيقهم بعد موته من الإحراق والسَّحق (ثُمَّ أَذْرَوْهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) ريحُه (فَقَالَ اللهُ ╡) له(6): (كُنْ، فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ قَائِمٌ) زاد أبو عَوانة في «صحيحه»: «في أسرع من طرفة العين» (قَالَ اللهُ) ╡ له: (أَيْ عَبْدِي مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ أَوْ فَرَقٌ) وللأَصيليِّ: ”مخافتَك(7) أو فَرَقًا“ بالنَّصب فيهما (مِنْكَ) بفتح الفاء والرَّاء، والشَّكُّ من الرَّاوي، ومعناهما واحدٌ، و«مخافتك» ومعطوفه رفعٌ، قال البدر الدَّمامينيُّ: خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: الحامل(8) لي مخافتك، أو فَرَقٌ منك، فإن قلت: هلَّا جعلته فاعلًا بفعلٍ مُقدَّرٍ، أي: حملني على ذلك مخافتك أو فَرَقٌ منك؟ قلت: يمتنع(9) لوجهين:
          أحدهما: أنَّه إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلًا والباقي فاعلًا، وكونه مبتدأً والباقي خبرًا؛ فالثَّاني أولى؛ لأنَّ المبتدأ عين الخبر، فالمحذوف عين الثَّابت، فيكون حذفًا كَلَا حذفٍ، وأمَّا الفعل فإنَّه غير الفاعل.
          الوجه الثَّاني: أنَّ التَّشاكل بين جملتي السُّؤال والجواب مطلوبٌ، ولا خفاء بأنَّ قوله: «ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟» جملةٌ اسميَّةٌ، فليكن جوابها كذلك؛ لمكان المناسبة، ولك على هذا أن تجعل «مخافتك» مبتدأً والخبر محذوفٌ، أي: حَمَلَتْنِي(10). انتهى.
          (قَالَ: فَمَا تَلَافَاهُ) بالفاء (أَنْ) بفتح الهمزة، أي: بأن (رَحِمَهُ عِنْدَهَا) قال في «الكواكب»: مفهومه عكس المقصود، ثمَّ أجاب بأنَّ «ما» موصولةٌ، أي: الذي تلافاه هو الرَّحمة، أو نافيةٌ وكلمة الاستنثاء محذوفةٌ عند من جوَّز حذفها، قال البدر الدَّمامينيُّ: وهو رأي السُّهيليِّ، والمعنى فما تلافاه إلَّا برحمته، ويؤيِّد هذا قوله: (وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا) قال سليمان التَّيميُّ: (فَحَدَّثْتُ بِهِ) بهذا الحديث (أَبَا عُثْمَانَ) عبد الرَّحمن النَّهديَّ (فَقَالَ: سَمِعْتُ هَذَا) الحديث (مِنْ سَلْمَانَ) الفارسيِّ الصَّحابيِّ كما رويته (غَيْرَ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: أَذرُونِي(11) فِي البَحْرِ) أي: ذروه في يوم عاصف في البحر (أَوْ كَمَا حَدَّثَ).
          وبه قال: (حَدَّثَنَا‼ مُوسَى) بن إسماعيل التَّبوذكيُّ قال: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) هو ابن سليمان (وَقَالَ) في روايته: (لَمْ يَبْتَئِرْ) بالرَّاء المهملة. (وَقَالَ خَلِيفَةُ) بن خيَّاطٍ الشَّيخ المصنِّف: (حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ) المذكور (وَقَالَ: لَمْ يَبْتَئِزْ) بالزَّاي المعجمة (فَسَّرَهُ قَتَادَةُ) بن دعامة: (لَمْ يَدَّخِرْ) خرَّجه الإسماعيليُّ، قال في «المصابيح»: قال السَّفاقسيُّ: وعند المعتزلة أنَّ هذا الرَّجل إنَّما غُفِر له من أجل توبته التي تابها؛ لأنَّ قبول التَّوبة واجبٌ عقلًا، والأشعريُّ: قطع بها سمعًا، وغيره: جوَّز القبول كسائر الطَّاعات، وقال ابن المنيِّر: قبول التَّوبة عند المعتزلة واجبٌ على الله تعالى عقلًا، وعندنا واجبٌ بحكم الوعد والتَّفضُّل والإحسان، لنا وجوهٌ:
          الأوَّل: الوجوب لا يتقرَّر(12) معناه إلَّا إذا كان بحيث لو لم يفعله الفاعل استحقَّ الذَّمَّ، فلو وجب القبول على الله تعالى لكان بحيث لو لم يقبل لصار مستحقًّا للذَّمِّ، وهو محالٌ؛ لأنَّ من كان كذلك فإنَّه يكون مستكملًا بفعل القبول، والمستكمل بالغير ناقصٌ لذاته، وذلك في حقِّ الله تعالى محالٌ.
          الثَّاني: أنَّ الذَّمَّ إنَّما يمنع من الفعل من كان يتأذَّى بسماعه، وينفر عنه طبعه، ويظهر له(13) بسببه نقصان حالٍ، أمَّا من كان / متعاليًا عن الشَّهوة والنُّفرة والزِّيادة والنُّقصان لم يُعقَل تحقُّق الوجوب في حقِّه بهذا المعنى.
          الثَّالث: أنَّه تعالى تمدَّح بقبول التَّوبة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}[التوبة:104] ولو كان ذلك واجبًا لما تمدَّح به؛ لأنَّ أداء الواجب لا يفيد المدح والثَّناء والتَّعظيم، قال بعض المفسِّرين: قبول التَّوبة من الكفر يُقطَع به على الله تعالى إجماعًا، وهذه نازلة(14) هذه الآية، وأمَّا المعاصي فيُقطَع بأنَّ الله تعالى يقبل التَّوبة منها من طائفةٍ من الأمَّة، واختُلِف(15) هل يقبل توبة الجميع؟ وأمَّا إذا عُيِّن إنسانٌ تائبٌ فيُرجَى(16) قبول توبته ولا يُقطَع به على الله تعالى، وأمَّا إذا فرضنا تائبًا غير مُعيَّنٍ صحيح التَّوبة فقيل: يُقطَع على الله بقبول توبته، وعليه طائفة، فيها(17) الفقهاء والمحدِّثون؛ لأنَّه تعالى أخبر بذلك عن نفسه، وعلى هذا يلزم أن يقبل توبة جميع التَّائبين، وذهب أبو المعالي وغيره إلى أنَّ ذلك(18) لا يُقطَع به على الله بل يقوى في الرَّجاء، والقول الأوَّل أرجح، ولا فرق بين التَّوبة من الكفر والتَّوبة من المعاصي بدليل أنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله، والتَّوبة تجبُّ ما قبلها. انتهى.
          والحديث سبق في «ذكر بني إسرائيل» [خ¦3478] وفي «الرِّقاق» [خ¦6481].


[1] في (د) و(ع): «حضره الموت»، وهي روايةٌ لأبي ذرٍّ.
[2] في (ع): «ليوافق».
[3] في (د): «المصباح»، وهو تحريفٌ.
[4] «لم»: مثبتٌ من (د).
[5] زيد في (د): «وبإسقاطها» وهو سبق نظر.
[6] «له»: مثبتٌ من (د).
[7] «مخافتك»: ليس في (د).
[8] في (ص): «الحاصل».
[9] «يمتنع»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[10] في (ص): «حملني».
[11] «أذروني»: مثبتٌ من (د) و(ع)، وكذا في «اليونينيَّة».
[12] في (د): «يتصوَّر».
[13] «له»: ليس في (ص).
[14] في كلِّ الأصول: «نزلة»، وصححت في (ب) و(س) إلى المثبت.
[15] زاد في (ص) و(ع): «فيها».
[16] في (ص): «فيترجَّى».
[17] في (د): «منها».
[18] في (د): «هذا».