إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن عبدًا أصاب ذنبًا فقال: رب أذنبت

          7507- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن الحصين بن جابرٍ، السِّـَرْ♣ماريُّ _بفتح السِّين المهملة الأولى(1) وكسرها وسكون الرَّاء_ الكلَّابيُّ(2) نسبةً إلى سرمارة قريةٍ من قرى بخارى، قال: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ) بفتح العين وسكون الميم، أبو عثمان الكلاباذي البصريُّ، حدَّث عنه البخاريُّ بلا واسطةٍ في «كتاب الصَّلاة» [خ¦575] وغيره(3) قال: (حَدَّثَنَا هَمَّامٌ) هو ابن يحيى قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن أبي طلحة الأنصاريُّ التَّابعيُّ المشهور قال: (سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ) بفتح العين وسكون الميم، التَّابعيَّ الجليل المدنيَّ، واسم أبيه كنيته، وهو أنصاريٌّ صحابيٌّ، وقيل: إنَّ لعبد الرَّحمن(4) رؤيةً (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) ☺ (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا _وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا_) بالشَّكِّ (فَقَالَ): يا (رَبِّ أَذْنَبْتُ) ذنبًا(5) (وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ) أي: ذنبًا (فَاغْفِرْ) ذنبي، ولأبي ذرٍّ: ”فاغفره“ وللكشميهنيِّ: ”فاغفر لي“ (فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي) بهمزة الاستفهام والفعل الماضي، وللأَصيليِّ: ”علم“ بحذف الهمزة (أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟) أي: يعاقب عليه، وللأَصيليِّ: ”يغفر الذُّنوب ويأخذ بها“ (غَفَرْتُ لِعَبْدِي) ذنبه، أو قال(6): ذنوبه (ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ) من الزَّمان (ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا) آخر، وفي رواية حمَّادٍ عند مسلمٍ: «ثمَّ عاد فأذنب» (أَوْ) قال: (أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ): يا (رَبِّ أَذْنَبْتُ _أَوْ) قال: (أَصَبْتُ_) ذنبًا (آخَرَ فَاغْفِرْهُ) لي، وللأَصيليِّ: ”فاغفر لي“ (فَقَالَ) ربُّه: (أَعَلِمَ) وللأَصيليِّ: ”علم“ (عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ) ويعاقب فاعله عليه؟ (غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ) من الزَّمان (ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا) آخر (_وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا_ قَالَ)(7): يا (رَبِّ أَصَبْتُ، أَوْ قَالَ) سقط لفظ «قال» لغير أبي ذرٍّ: (أَذْنَبْتُ) ذنبًا (آخَرَ فَاغْفِرْهُ لِي) كذا بالشَّكِّ في هذه المواضع‼ المذكورة كلِّها في هذا الحديث من هذا الوجه، ورواه حمَّاد بن سلمة عن إسحاق عند مسلمٍ بلفظ: «عن النَّبيِّ صلعم فيما يروي عن ربِّه ╡ قال: أذنب عبدي ذنبًا» ولم يشكَّ، وكذا في بقيَّة المواضع (فَقَالَ) ربُّه(8): (أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي _ثَلَاثًا_) أي: الذُّنوب الثَّلاثة، وسقط لفظ «ثلاثًا» لأبي ذرٍّ كقوله: (فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ) إذا كان هذا دأبه يذنب الذَّنب فيتوب منه ويستغفر، لا أنَّه يذنب الذَّنب ثمَّ يعود إليه، فإنَّ هذه توبة الكذَّابين، ويدلُّ له قوله: «أصاب ذنبًا آخر» كذا قرَّره المنذريُّ، وقال أبو العبَّاس في «المفهم»: هذا الحديث يدلُّ على عظم فائدة الاستغفار، وكثرة فضل الله وسعة رحمته وحلمه وكرمه، لكنَّ هذا الاستغفار هو الذي يثبت معناه في القلب مقارنًا للِّسان؛ لتنحلَّ به عقدة الإصرار ويحصل مع النَّدم، ويشهد له حديث: «خياركم كل مُفتَنٍ توَّابٍ» أي: الذي يتكرَّر منه الذَّنب والتَّوبة، فكلَّما وقع في ذنبٍ عاد إلى التَّوبة، لا من قال: أستغفر الله، بلسانه، وقلبُه مُصِرٌّ على تلك المعصية، فهذا الذي استغفاره يحتاج إلى استغفارٍ، وفي حديث ابن عبَّاسٍ عند ابن أبي الدُّنيا / مرفوعًا: «التَّائب من الذَّنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذَّنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربِّه» لكنَّ الرَّاجح أنَّ قوله: «والمستغفر...» إلى آخره موقوفٌ، وقال ابن بطَّالٍ في هذا الحديث: إنَّ المصرَّ على المعصية في مشيئة الله إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له مغلِّبًا لحسنته التي جاء بها، وهي اعتقاد أنَّ له ربًّا خالقًا يعذِّبهُ ويغفر له، واستغفاره إيَّاه على ذلك يدلُّ عليه قوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام:160] ولا حسنة أعظم من التَّوحيد، فإن قيل: إنَّ استغفاره ربَّه توبةٌ منه قلنا: ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلبها المصرُّ والتَّائب، ولا دليل(9) في الحديث على أنَّه تاب ممَّا سأل الغفران عنه؛ لأنَّ حدَّ التَّوبة الرُّجوع عن الذَّنب والعزم ألَّا يعود إليه والإقلاع عنه، والاستغفار بمجرَّده لا يُفهَم منه ذلك، وقال السُّبكيُّ في «الحلبيَّات»: الاستغفار طلب المغفرة إمَّا باللِّسان أو بالقلب‼ أو بهما، فالأوَّل: فيه نفعٌ لأنَّه خيرٌ من السُّكوت، ولأنَّه يعتاد قول الخير، والثَّاني: نافعٌ جدًّا، والثَّالث: أبلغ منه، لكن لا يمحِّصان الذَّنب حتَّى توجد التَّوبة منه(10)، فإنَّ العاصي المصرَّ يطلب المغفرة ولا يستلزم ذلك وجود التَّوبة إلى أن قال: والذي ذكرته من أنَّ معنى الاستغفار غير معنى التَّوبة هو بحسب وضع اللَّفظ، لكنَّه غلب عند كثيرٍ من النَّاس أنَّ لفظ «أستغفر الله» معناه التَّوبة، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التَّوبة لا محالة، ثمَّ قال: وذكر بعضهم أنَّ التَّوبة لا تتمُّ إلَّا بالاستغفار لقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ}[هود:3] والمشهور أنَّه لا يُشتَرط، وقال بعضهم: يكفي في التَّوبة تحقُّق النَّدم على وقوعه منه، فإنَّه يستلزم الإقلاع عنه والعزم على عدم العود، فهما ناشئان عن النَّدم لا أصلان معه، ومن ثمَّ جاء(11) الحديث: «النَّدم توبةٌ» وهو حديثٌ حسنٌ من حديث ابن مسعودٍ، أخرجه ابن ماجه وصحَّحه الحاكم، وأخرجه ابن حبَّان من حديث أنسٍ وصحَّحه(12). انتهى. ملخَّصًا من «فتح الباري».
          وسقط للأَصيليِّ «فقال: أَعَلِمَ عبدي أنَّ له ربًّا» الثَّالثة إلى آخر الحديث، ومطابقته للتَّرجمة في قوله: «فقال(13) ربُّه» وفي قوله: فقال: «أَعَلِمَ عبدي؟».
          وأخرجه مسلمٌ في «التَّوبة» والنَّسائيُّ في «اليوم واللَّيلة».


[1] «الأولى»: مثبتٌ من (د) و(س).
[2] في غير (د): «الكلابذيُّ»، والمثبت موافقٌ لكتب التَّراجم.
[3] في غير (ب) و(س): «وغيرها»، وغير كتاب الصلاة مثل: [5016، 5812، 6167، 6263].
[4] زيد في (د): «أيضًا».
[5] «ذنبًا»: مثبتٌ من (د) و(س).
[6] «قال»: ليس في (ب).
[7] زيد في (د): «قال»، وهو تكرارٌ.
[8] في (ص): «له».
[9] في (ب) و(س): «دلالة».
[10] قوله: «منه»: جاء في غير (ب) و(س) بعد قوله لاحقًا: «وجود التَّوبة».
[11] زيد في (د): «في».
[12] قوله: «وقال بعضهم: يكفي في التَّوبة تحقُّق... من حديث أنسٍ وصحَّحه» جاء في (د) و(ع) بعد قوله سابقًا: «لا يُفهَم منه ذلك».
[13] زيد في (ب) و(س): «له».