الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب نزول عيسى ابن مريم ♂

          ░49▒ (باب: نزول عيسى بن مريم)
          كذا في «النُّسخ الهنديَّة» والعينيِّ والقَسْطَلَّانيِّ، وسقط لفظ: (باب) في نسخة «الفتح»: قال الحافظ: يعني: في آخر الزَّمان، كذا لأبي ذرٍّ بغير (باب)، وأثبته غيره. انتهى مِنَ «الفتح».
          وكتب أخونا ومولانا محمَّد إدريس الكاندهلويُّ في «التَّعليق الصَّبيح»: اعلم أنَّ نزول عيسى على نبيِّنا و╕ في آخر الزَّمان مِنَ السَّماء إلى الأرض حقٌّ ثابت بالكتاب والسُّنَّة وإجماع الأُمَّة، مَنْ أنكره فقد كفر.
          أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النِّساء:159] والمعنى: ليؤمننَّ بعيسى قبل موت عيسى، وقال تعالى في حقِّ عيسى ◙: ▬وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ↨، قرئ بفتح اللَّام والعين، والضَّمير في {إِنَّهُ} راجع إلى عيسى ◙، لقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57]، والمعنى: أنَّ نزوله علامة القيامة.
          وأمَّا الأحاديث فهي كثيرة بلغت مبلغ التَّواتر، كما صرَّح به الحافظ ابن كثير في «تفسيره» والحافظ العَسْقلانيُّ في «الفتح» وقد ألف شيخنا الأكبر أستاذنا ومولانا الشَّاه محمَّد أنور_نوَّر الله وجهه يوم القيامة ونضَّر_ وأفرد(1) رسالة وجيزة في أحاديث النُّزول، أورد فيها أكثر مِنْ سبعين حديثًا فشفى وكفى وجمع فأوعى جزاه [الله] الجزاء الأوفى.
          وأمَّا الإجماع فقال أبو حيَّان في «البحر المحيط»: قال ابن عطيَّة: وأجمعت الأُمَّة على ما تضمَّنه الحديث المتواتر مِنْ أنَّ عيسى ◙ في السَّماء حيٌّ، وأنَّه ينزل في آخر الزَّمان، وقال الشَّيخ محيي الدِّين في «الفتوحات»: لا خلاف في أنَّه ينزل في آخر الزَّمان، وقال السَّفارينيُّ: قد أجمعت الأمَّة على نزوله ولم يخالف فيه أحد مِنْ أهل الشَّريعة وإنَّما أنكره الفلاسفة والملاحدة ممَّا لا يُعتَدُّ بخلافه... إلى آخر / ما قال، كذا في «شرح العقيدة السَّفارينيَّة». انتهى.
          ثم ذكر النُّقول في كفر مَنْ أنكر نزوله، وأيضًا بسط الكلام في لطائف الأسرار والحكم في نزوله ╕، فارجع إليه لو شئت.
          وسيأتي شيء مِنَ الكلام عليه عن «فتح الملهم».
          قال الحافظ: الحكمة في نزول عيسى دون غيره مِنَ الأنبياء الرَّدُّ على اليهود في زعمهم أنَّهم قتلوه، فبيَّن الله تعالى كذبهم، وأنَّه الَّذِي يقتلهم، أو نزوله لدنوِّ أجله ليدفن في الأرض إذ ليس لمخلوق مِنَ التراب أن يموت في غيرها، وقيل: إنَّه دعا الله لمَّا رأى صِفة محمَّد صلعم وأُمَّته أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه، وأبقاه حتَّى ينزل في آخر الزَّمان مجدِّدًا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدَّجَّال فيقتله، والأوَّل أوجَهُ.
          وروى مسلم مِنْ حديث ابن عمر في مدَّة إقامة عيسى بالأرض بعد نزوله أنَّها سبع سنين، وروى نعيم بن حماد في «كتاب الفتن» مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ عيسى إذ ذاك يتزوَّج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنةً)) وبإسناد فيه مبهم عن أبي هريرة: ((يقيم بها أربعين سنة)) وروى أحمد وأبو داود بإسناد صحيح مِنْ طريق عبد الرَّحمن بن آدم عن أبي هريرة مثله مرفوعًا، وقد اختُلف في موت عيسى [◙] قبل رَفْعِه، والأصل فيه قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ} [آل عمران:55]، فقيل: على ظاهره، وعلى هذا فإذا نزل في الأرض ومضت المدَّة المقدَّرة له يموت ثانيًا، وقيل: معنى قوله: {مُتَوَفِّيكَ} مِنَ الأرض، فعلى هذا لا يموت إلَّا في آخر الزَّمان، واختُلف في عمره حين رفع، فقيل: ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: مئة وعشرين. انتهى كلُّه مِنَ «الفتح».
          وأجاد صاحب «فتح الملهم» في بيان الحكمة في نزول عيسى ╕ حيث كتب: قال العبد الضَّعيف: اعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى لمَّا أراد أن يظهر صفة إنعامه وانتقامه خَلَق الخَلْق وجعله أصنافًا، فخَلَق منابع الإيمان والهداية، مِنْ غير نوع الإنسان وهم الملائكة، ومِنَ النَّوع الإنسانيِّ وهم الأنبياء والمرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وخَلق معادن الكفر والضَّلالة مِنْ غير نوع الإنسان وهم الشَّياطين، ومِنَ النَّوع الإنسانيِّ وهم الدَّجَّالون الكذَّابون عليهم لعنة الله، فالأوَّلون هم سادة السُّعداء النَّازلين في دار كرامته وفضله ومظاهر رحمته ورضاه سبحانه وتعالى، والآخرون هم رؤوس الأشقياء السَّاقطين في محلِّ عقوبته وسخطه ومظاهر نقمته وغضبه، والمحاربة قائمة بين الفريقين، والمخالفة واقعة بين الطَّرفين على ما يقتضيه نظام التَّجاذب الواقع بين صفات الله الجماليَّة والقهريَّة، فملائكة الله في طرف، والشَّياطين في طرف آخر، وأولياء الرَّحمن في جانب، والدَّجاجلة أعداء الله في جانب آخر، ومازالوا يتحاربون ويتقاتلون في كلِّ عصر، ولا يزالون مختلفين حتَّى يأتي أمر الله، ولذلك خلقهم: {كُلًّا نُمِدُّ(2) هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20].
          ومِنَ المعلوم المتيقَّن أنَّه كلَّما ظهر في هذه الأُمَّة دجَّال كذَّاب قام مِنْ ورثة سيِّد الأنبياء صلعم شخص أو قوم لدفع مكائده وإبطال حيله، والله سبحانه وتعالى نصر الصَّادق وخذل الكاذب، ولا تزال هذه المحاربة بين أولياء الرَّحمن، وأولياء الشَّيطان حتَّى يخرج رأس الكفر مِنَ المشرق وهو الدَّجَّال الأعظم، وعدوُّ الله الأكبرُ الَّذِي أنذر به كلُّ نبيٍّ قومَه، وختمت به سلسلة الدَّجل والكذب، إلى أن كتب: وهذه فتنة لا توجد أعظمُ منها، وهناك ابتُلي المؤمنون وزلزلوا زلزالًا شديدًا، فكأنَّ الظَّاهر ألَّا يقدم بمقاومة خاتَم الدَّجاجلة الكاذبين إلَّا خاتم الأنبياء والمرسلين، ودعا له الخليل والذَّبيح، وبشَّر بمقدمه المسيح، وانتهت إليه مراتب النُّبوَّة والرِّسالة الَّذِي أُرسل بالحقِّ كافَّة للنَّاس بشيرًا ونذيرًا، فلا يبقى على ظهر الأرض بيت وبرٍ ولا مدر إلَّا أدخله الله دينه القويم، فكان الأوفق فيما يبدو / للنَّاس أن يكون النَّبيُّ صلعم بنفسه النَّفيسة حجيجَ عدوِّ الله الأكبر إلَّا أنَّ الله سبحانه وتعالى رفع منزلته، وجعل أمر الدَّجَّال اللَّعين أَهْونَ مِنْ أن يقدم في مقابلته صلعم... إلى آخر ما بسط.


[1] قوله: ((وأفرد)) ليس في (المطبوع).
[2] في (المطبوع): ((يمد)).