الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب شهادة القاذف والسارق والزاني

          ░8▒ (باب: شَهادة القَاذِف والسَّارِق والزَّانِي...) إلى آخره
          قالَ العَينيُّ: القاذف هو الَّذِي يقذف أحدًا بالزِّنا، وأصل القذف الرِّمي، ولم يصرح بالجواب لمكان الخلاف فيه. انتهى.
          وقال الحافظ: أي: هل تُقبل بعد توبتهم أم لا؟ [انتهى].
          وقالَ القَسْطَلَّانيُّ: قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور:5] أي: أعمالَهم بالتَّدارك، ومنه الاستسلام للحدِّ أو الاستحلال مِنَ المقذوف، فإنَّ شهادتهم مقبولة، لأنَّ الله تعالى استثنى التَّائبين عقب النَّهي عن قَبُول شهادتهم، وقال الحنفيَّة: ذكرُه بالتَّأبيد يدلُّ على أنَّها لا تُقبل بعد استيفاء الحدِّ لكلِّ حال، والاستثناء منصرف إلى ما يليه وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] وقالوا: الاستثناء منقطع لأنَّ التَّائبين غير داخلين في صدر الكلام وهو قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] إذ التَّوبة تجبُّ ما قبلها مِنَ الذُّنوب، فلا يكون التَّائب فاسقًا، وأمَّا الشَّهادة فلا تُقبل أبدًا، لأنَّ ردَّها مِنْ تتمَّة الحدِّ لأنَّه يصلح جزاء، فيكون مشاركًا للأوَّل في كونه حدًّا، وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] لا يصلح أن يكون جزاء لأنَّه ليس بخطاب للأئمَّة، بل إخبار عن صفة قائمة بالقاذفين، فلا يصلح أن يكون مِنْ تمام الحدِّ ... إلى آخر ما قال.
          قال الحافظ: وهذا الاستثناء عمدةُ مَنْ أجاز شهادته إذا تاب، وبهذا قال الجمهور: إنَّ شهادة القاذف بعد التَّوبة تُقبل، ويزول عنه اسم الفسق سواء كان بعد إقامة الحدِّ أو قبله، وتأوَّلوا قوله تعالى: {أَبَدًا} [النور:4] على أنَّ المراد ما دام مصرًّا على قذفه، لأنَّ أبد كلِّ شيء على ما يليق به، وبالغ الشَّعبيُّ فقال: إن تاب القاذف قبل إقامة الحدِّ سقط عنه، وذهب الحنفيَّة إلى أنَّ الاستثناء يتعلَّق بالفسق خاصَّة، وقال بذلك بعض التَّابعين، وفيه مذهب آخر: يُقبل بعد الحدِّ لا قبله. انتهى.
          وفي «الفيض»: وقد بحث في الأصول أنَّ الاستثناء إذا وقع بعد عدَّة أمور هل يرجع إلى الأقرب أو إلى الجميع؟ فليراجع. انتهى.
          وبسط الشَّيخ قُدِّس سِرُّه الكلام عليه في «اللَّامع» أشدَّ البسط.
          وفي «هامشه»: هذه مسألة خلافيَّة شهيرة بسطت في «الأوجز»: وهي قَبُول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، قالَ الموفَّق: تُقبل شهادته عندنا ومالكٍ والشَّافعيِّ وإسحاق وجماعةٍ ذكر أسماءهم في «الأوجز»... إلى آخر ما فيه.
          وقال الحافظ: جمع البخاريُّ في التَّرجمة بين السَّارق والقاذف للإشارة إلى أنَّه لا فرق في قَبُول التَّوبة منهما، وإلَّا فقد نقل الطَّحَاويُّ الإجماع على قَبُول شهادة السَّارق إذا تاب، نعم ذهب الأوزاعيُّ إلى أنَّ المحدود في الخمر لا تُقبل شهادته وإن تاب، ووافقه الحسن بن صالح، وخالفهما في ذلك جميع فقهاء الأمصار. انتهى.
          (قوله: وقال بعض النَّاس) هذا منقول عن الحنفيَّة، واحتجُّوا في ردِّ شهادة المحدود بأحاديث.
          قال الحفاظ: لا يصحُّ منها شيء، (ثم قال) أي: بعض النَّاس الَّذِي أشار إليه، وهو منقول عن الحنفيَّة أيضًا، واعتذروا بأنَّ الغرض شهرة النِّكاح، وذلك حاصل بالعدل وغيره عند التَّحمُّل أمَّا عند الأداء فلا يُقْبل إلَّا العدل.
          قوله: (وأجاز شهادة العبد...) إلى آخره، هو منقول عنهم أيضًا واعتذروا بأنَّها جارية مجرى الخبر لا الشَّهادة [ انتهى مِنَ «الفتح» وتعقَّب العلَّامة العينيُّ على قول الحافظ فارجع إليه لو شئت. وفي «الفيض»: وحاصله أنَّ الإمام أبا حنيفة ردَّ أوَّلًا شهادة] المحدود، ثمَّ ناقضه، واعتبرها في النِّكاح.
          قلت: ليس الأمر كما فهم المصنِّف، فإنَّ الإمام ردَّها للثُّبوت وقبلها للانعقاد وبينهما فرقٌ لا يخفى... إلى آخر ما أوضح الفرق، فارجع إليه.
          (قوله: وكيف تُعرف توبته؟) أي: القاذف، وهذا مِنْ كلام المصنِّف، وهو مِنْ تمام التَّرجمة، وكأنَّه أشار إلى اختلاف في ذلك، فعن أكثر السَّلف لا بدَّ أن يُكْذِب نفسه، وبه قال الشَّافعيُّ، وعن مالك: إذا ازداد خيرًا / كفاه، ولا يتوقَّف على تكذيب نفسه لجواز أن يكون صادقًا في نفس الأمر، وإلى هذا مال المصنِّف. انتهى مِنَ «الفتح».
          وبسط الكلام على هذا الباب في «اللَّامع» و«هامشه» أشدَّ البسط، فارجع إليه لو شئت التَّفصيل.