إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا

          3411- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ) البيكنديُّ قال: (حَدَّثَنَا وَكِيعٌ) بفتح الواو وكسر الكاف ابن الجرَّاح بن مَليح بن عديٍّ(1) الرُّؤاسي _بضمِّ الرَّاء وهمزةٍ(2) ثمَّ سينٍ مهملةٍ_ العابد الكوفيُّ (عَنْ شُعْبَةَ) بن الحجَّاج (عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ) بفتح العين، و«مُرَّة» بضمِّ الميم وتشديد الرَّاء، المراديِّ الأعمى الكوفيِّ (عَنْ مُرَّةَ) بن شَرَاحِيل(3) المخضرَم (الهَمْدَانِيِّ) كان يصلِّي ألف ركعةٍ في كلِّ يومٍ (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيسٍ الأشعريِّ ( ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : كَمَلَ) بفتح الميم في الفرع وأصله، وتُضَمُّ وتُكسَر (مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ) بضمِّ الميم (مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ) قيل: وكانت ابنة عمِّ فرعون، وقيل: من العماليق، وقيل: من بني إسرائيل من سبط موسى، وقال السُّهيليُّ: هي عمَّة موسى (وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ) أمُّ عيسى. وقال في «الكواكب»: ولا يلزم من لفظ الكمال نبوَّتهما؛ إذ هو مطلقٌ(4) لتمام الشَّيء وتناهيه في بابه، فالمراد: تناهيهما في جميع الفضائل الَّتي للنِّساء، وقد نُقِل الإجماع على عدم النُّبوَّة لهنَّ. انتهى. وهذا مُعارَضٌ بما نُقِل عن الأشعريِّ: أنَّ من النِّساء من نُبِّئ، وهن ستٌّ: حوَّاء وسارة وأمُّ موسى _واسمها يوخابذ(5)‼، وقيل: أباذخا(6)، وقيل: أياذخت(7)_ وهاجر وآسية ومريم، والضَّابط عنده: أنَّ من جاءه الملك عن الله بحكمٍ من أمرٍ أو نهيٍ أو بإعلامه شيئًا فهو نبيٌّ، وقد ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمورٍ شتَّى من ذلك من عند الله تعالى، ووقع التَّصريح بالإيحاء لبعضهنَّ في القرآن، قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ...}[القصص:7] الآية. وقال تعالى بعد أن ذكر مريم والأنبياء بعدها: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ}[مريم:58] فدخلت في عمومه. وقال القرطبيُّ: الصحيح أنَّ مريم نبيَّةٌ لأنَّ الله أوحى إليها بواسطة المَلَك، وأمَّا آسية فلم يأتِ ما يدلُّ على نبوَّتها، واستدلَّ بعضهم لنبوَّتها ونبوَّة مريم بالحصر في حديث الباب حيث قال: «ولم يكمُل من النِّساء إلَّا آسية ومريم» قال: لأنَّ أكمل النَّوع الإنسانيِّ الأنبياء ثمَّ الأولياء والصِّدِّيقون والشُّهداء، فلو كانتا غير نبيَّتين للزم ألَّا يكون في النِّساء وليَّةٌ ولا صدِّيقةٌ ولا شهيدةٌ، والواقع: أنَّ هذه الصِّفات في كثيرٍ منهنَّ موجودةٌ، فكأنَّه قال: لم يُنبَّأ من النِّساء إلَّا فلانةٌ وفلانةٌ، ولو قال: لم تثبت صفة الصِّديقيَّة أو الولاية أو الشَّهادة إلَّا لفلانةٍ وفلانةٍ لم يصحَّ، لوجود ذلك في غيرهنَّ، إلَّا أن يكون المراد بالحديث كمال غير الأنبياء، فلا يتمُّ الدَّليل على ذلك لأجل ذلك(8)، واحتجَّ المانعون بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي (9) إِلَيْهِم}[يوسف:109]، وأُجيب بأنَّه لا حجَّة فيه، لأنَّ أحدًا لم يدَّعِ فيهنَّ الرِّسالة، وإنَّما الكلام في النُّبوَّة فقط.
          (وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ) بنت أبي بكرٍ الصِّدِّيق (عَلَى النِّسَاءِ) أي: نساء هذه الأمَّة (كَفَضْلِ الثَّرِيدِ) بالمثلَّثة (عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ) قيل: إنَّما مثَّلَ بالثَّريد لأنَّه أفضل طعام العرب، ولأنَّه ليس في الشِّبع أغنى غناءً منه، وقيل: إنَّهم كانوا يحملون الثَّريد فيما طُبِخ بلحمٍ، ورُوِي: «سيِّد الطَّعام اللَّحم» فكأنَّها(10) فُضِّلت على النِّساء كفضل اللَّحم على سائر الأطعمة، والسِّرُّ فيه: أنَّ الثَّريد مع اللَّحم جامعٌ بين الغذاء واللَّذَّة والقوَّة وسهولة التَّناول(11) وقلَّة المؤونة في المضغ وسرعة المرور في المريء، فضُرِب به مثلًا ليُؤذَن بأنَّها أُعطِيت مع حسن الخُلق حسن الخَلق وحلاوة المنطق وفصاحة اللَّهجة وجودة القريحة ورزانة الرَّأي ورصانة العقل والتَّحبُّب إلى البعل، فهي تصلح للتَّبعُّل والتَّحدُّث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنَّها عقلت من النَّبيِّ صلعم ما لم يعقل غيرها من النِّساء، وروت ما لم يروِ مثلها من الرِّجال، وممَّا يدلُّ على أنَّ الثَّريد أشهى الأطعمة عندهم وألذُّها قول شاعرهم:
إذا ما الخبزُ تأدمُه بلحمٍ                     فذاك أمانة الله الثَّريدُ /
          قاله في «فتوح الغيب».
          وهذا الحديث أخرجه أيضًا في «فضل عائشة» [خ¦3769] وفي «الأطعمة» [خ¦5418]، ومسلمٌ في «الفضائل»، والتِّرمذيُّ في «الأطعمة»، والنَّسائيُّ في «المناقب» و«عِشْرة النِّساء»، وابن ماجه في «الأطعمة»، والله أعلم(12).


[1] في (د): «عليٍّ» وهو تحريفٌ.
[2] «وهمزةٍ»: ليس في (د).
[3] في (د): «شرحبيل» وهو تحريفٌ.
[4] في (د): «يُطلَق».
[5] في (د): «يوخايذ».
[6] في (د): «أياذخا».
[7] في غير (د) و(س): «أباذخت».
[8] «لأجل ذلك»: ليس في (د).
[9] في (د) و(س): «يُوحَى»، والمثبت موافقٌ للآية.
[10] في (د): «فإنَّها».
[11] في غير (د): «التَّنازل» ولعلَّه تحريفٌ.
[12] «والله أعلم»: مثبتٌ من (د).