التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وقت الفجر

          ░27▒ باب وَقْتِ الفَجْرِ.
          575- 576- 577- 578- ذكر فيه ثلاثة أحاديث:
          أحدها: حديث أنس بن مالكٍ: (أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مَعَ النَّبِيِّ صلعم ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ. قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ آيَةً).
          وفي روايةٍ عنه: (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلعم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللهِ صلعم إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى. قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا وسَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِيِنَ آَيَةً).
          ثانيها: حديث سهل بن سعدٍ: (كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعةٌ أَنْ أُدْرِكَ صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم).
          ثالثها: حديث عائشة: (كُنَّ نِسَاءُ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم صَلاَةَ الفَجْرِ مُتَلِفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ، لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ).
          حديث عائشة هذا تقدَّم أوائل الصَّلاة [خ¦372]، وتقدم الكلام عليه واضحًا. والطَّريق الأوَّل مِن حديث أنسٍ أخرجه مسلمٌ.
          والثاني أخرجه النَّسائيُّ في الصَّوم، وتارةً يُجعل مِن مسند أنسٍ عن زيدٍ، وتارةً مِن مسند أنسٍ، ويأتي أيضًا في صلاة اللَّيل والصَّوم، وقد رواه الطَّحاويُّ عنهما. وللنَّسائيِّ وابن حبَّان: ((قَالَ لي رَسُولُ الله صلعم: يا أنس، إنِّي أريد الصِّيام أطعمني شيئًا فجئته بتمرٍ وإناءٍ فيه ماءٌ، وذلك بعد ما أذَّن بلالٌ، قَالَ: يا أنسُ: انظر رجلًا يأكل معي فدعوتَ زيدَ بن ثابتٍ فجاء، فقال: إنِّي قد شربت شربة سَوِيقٍ، وأنا أريد الصِّيام، فقال رَسُولُ الله صلعم: وأنا أريد الصِّيام. فتسحَّر معه، ثمَّ قام فصلَّى ركعتين، ثمَّ خرج إلى الصَّلاة)).
          قَالَ الإسماعيليُّ: قَالَ خالد بن الحارث عن سعيدٍ في هذا الحديث: أنسٌ / عن زيد، وأصحاب سعيدٍ يقولون: عن أنسٍ. وَقَالَ خالد بن الحارث: أنس القائلُ: كم كان بينهما؟ وفي حديث همَّامٍ: قلت لزيدٍ: كم كان بينهما؟ ويزيدُ بن زُرَيعٍ يقول لأنس: كم كان بينهما؟ وهما جميعًا سائغان، أنْ يكون أنسٌ سأل زيدًا فأخبره، وأن يكون قَتادة أو غيره سأل أنسًا فأرسل له قدر ما كان بينهما كما أرسل أصل الخبر فلم يقل: عن زيد.
          ومِن تراجم البخاريِّ على هذا الحديث في الصَّيام باب: قدر كم بين السُّحور وصلاة الصُّبح؟ فذكر خمسين آيةً، ومراده بالصَّلاة دخول وقتها. وحديث سهلٍ ذكره في الصَّوم أيضًا، أخرجه هنا عن إسماعيل بن أبي أُوَيسٍ عن أخيه عن سليمان عن أبي حازمٍ عن سهلٍ. وأخرجه في الصَّوم عن محمَّد بن عُبيد الله، عن عبد العزيز بن أبي حازمٍ، عن أبيه. وادَّعى خلفٌ أنَّ البخاريَّ أخرجه في الصَّوم عن قُتَيبة عن عبد العزيز بن أبي حازمٍ. ولم يُرَ ذلك فيه، ولا ذكره أبو مسعودٍ ولا الطَّرْقيُّ.
          أمَّا فقه الباب: فالإجماع قائمٌ على أنَّ وقت صلاة الصُّبح انصداع الفجر، وهو البياض المعترض في أفق السَّماء مِن جهة المشرق، وهو الفجر الثاني الصَّادق، أي: لأنَّه صدق في الصُّبح وبيَّنه، لا الفجر الأوَّل الكاذب الَّذي يبدو ضوؤه مستطيلًا ذاهبًا في السَّماء كذنَب السَّرحان وهو الذئب، وقيل: الأسد، ثمَّ ينمحي أثره ويصير الجوُّ أظلم ما كان، سُمِّي كاذبًا لأنَّه يضيء ثمَّ يسوَدُّ ويذهب النُّور فكأنَّه كاذبٌ، وشُبِّه بذنب السَّرحان لطوله ولأنَّ ضوءه يكون في الأعلى دون الأسفل، كما أنَّ الذِّئب يكثر شعر ذنبِه في أعلاه دون أسفله.
          والأحكام متعلِّقةٌ بالفجر الثَّاني دون الأوَّل، ولا يتعلَّق بالأوَّل شيءٌ مِن الأحكام. وفيه في الدَّارقطنيِّ حديثٌ مِن طريق عبد الرَّحمن بن ثَوبان، وغيره.
          واختُلِف في آخر وقته: فذهب الجمهور إلى أنَّ آخره طلوع أوَّل جِرْم الشَّمس، وهو مشهور مذهب مالكٍ، وروى عنه ابن القاسم وابن عبد الحكَم أنَّ آخر وقتها الإسفار الأعلى، وعلى هذا فما بعد الإسفار وقتٌ لأصحاب الأعذار، ويُؤثَّم مَن أخَّر الصَّلاة إلى ذلك الوقت، بخلاف الأوَّل. وعن الإصْطَخْريِّ: مَن صلَّاها بعد الإسفار الشَّديد يكون قاضيًا، واستدلَّ بحديث أبي موسى أنَّه ◙ صلَّى بالسَّائل الفجر في اليوم الثَّاني حين انصرف منها، والقائل يقول: قد طلعت الشَّمس أو كادت. وَقَالَ: ((الوقت ما بين هذَين)) وظاهره أنَّ آخر وقتها يخرج قبل طلوع الشَّمس بيسيرٍ، وهو الَّذي يقدَّر بإدراك ركعةٍ كما في الحديث، والجمهور استدلُّوا بالأحاديث الَّتي فيها: ((فإذا صلَّيتُم الفجرَ، فإنَّه وقتٌ إلى أن يطلُعَ قرنُ الشَّمسِ)).