التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب وقت الظهر عند الزوال

          ░11▒ باب وَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ.
          540- 541- 542- ذكر فيه أحاديث:
          أحدها: حديث جابرٍ علَّقه فقال: (وَقَالَ جَابِرٌ: كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي بِالْهَاجِرَةِ).
          وهذا التَّعليق قد أسنده في باب وقت المغرب كما ستراه [خ¦560].
          ثانيها: حديث أنسٍ: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ، فَقَامَ على المِنْبَرِ...) الحديث.
          هذا الحديث تقدَّم الكلام على بعض متنه في باب مَن برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدِّث [خ¦93]، وهو: ((مَن أبي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ فبركَ عمر... إلى قوله: وبمحمَّدٍ نبيًّا فسكتَ)). زاد هنا: ثمَّ قَالَ: (عُرِضَتْ عَلَيَّ الجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ، فَلَمْ أَرَ كَالخَيْرِ وَالشَّرِّ)، وذكره البخاريُّ فيما سيأتي [خ¦542] مِن حديث بكر المُزَنيُّ عن أنسٍ قَالَ: ((كنَّا إذا صلَّينا خلف رَسُولِ الله بالظَّهائرِ سجدْنا على ثيابِنا اتِّقاء الحرِّ)).
          ومعنى (زَاغَتْ) مالت، وكلُّ شيءٍ مال وانحرف عن الاعتدال فقد زاغ، قَالَ تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وفي التِّرمذيِّ مِن هذا الوجه: ((صلَّى الظُّهرَ حينَ زالتِ الشَّمسُ)). وصحَّحه. قَالَ ابن المُنذر: أجمع العلماءُ على أنَّ وقتَ الظُّهر زوالُ الشَّمس. وما حكاه القاضي عبدُ الوهَّاب في «فاخره» عن بعض النَّاس أنَّه يجوز افتتاح الظُّهر قبل الزَّوال غلطٌ فاحشٌ من قائله غير معتدٍّ به، وكذا ما نُقل عن بعضهم أنَّه يدخل إذا صار الفيءُ قدر الشِّراك. وحكى ابن بطَّالٍ عن الكَرْخيِّ عن أبي حنيفةَ أنَّ الصَّلاة في أوَّل الوقت تقع نفلًا، وثانيه أنَّه واجبٌ موقوفٌ، واستغرب الأوَّل.
          قَالَ المهلَّب: وإنَّما خطب الشَّارع بعد الصَّلاة وذكرَ السَّاعة وقال: ((سَلُونِي)) لأنَّه بلغه أنَّ قومًا مِن المنافقين ينالون منه، ويعجِّزونه عن بعض ما يسألونه عنه، فتغيَّظ عليهم، وقال: ((لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ)) وبكاءُ النَّاس خوف نزول العذاب المعهود في الأمم الخالية عند تكذيب الرُّسل، كانوا إذا جاءتهم آيةٌ فلم يؤمنوا لم يمطُلهم العذاب، قَالَ تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ} [الأنعام:8] و{لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]، فبكَوا إشفاقًا مِن ذلك، ألا ترى فهم عمرَ حين برك على رُكبتيه وقَالَ: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمَّدٍ نبيًّا حين قَالَ ◙ للسَّائل له عن أبيه: ((أَبُوكَ حُذَافَةُ))؟ وكان هذا الرَّجل لا يُعرَف أبوه حتَّى أخبر به الشَّارع، وقال ابن الجوزيِّ: إنَّهم بكَوا لغضبه صلعم.
          وقوله: (فِيْ عُرْضِ هَذَا الحَائِطِ) عُرض الشيء جانبُه، يُقال: نظرت إليه عن عُرْضٍ، وعُرْض النَّهر والبحر وسطهما، قاله الخليل.
          الحديث الثالث: ذكر فيه حديث أبي المِنهال عن أبي بَرْزَة: (كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُصَلِّي الصُّبْحَ وَأَحَدُنَا يَعْرِفُ جَلِيسَهُ، وَيَقْرَأُ ما بَيْنَ السِّتِّينَ إلى المِائَةِ، وَيُصَلِّي الظُّهْرَ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ، وَأَحَدُنَا يَذْهَبُ إِلَى أَقْصَى المَدِينَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَنَسِيتُ مَا قَالَ فِي المَغْرِبِ، وَلاَ يُبَالِي بِتَأْخِيرِ العِشَاءِ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ. قَالَ: أو إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ شُعْبَةٌ: ثُمَّ لَقِيتُهُ مَرَّةً فَقَالَ: أَوْ ثُلُثِ اللَّيْلِ).
          الكلام عليه مِن أوجهٍ:
          أحدها: هذا الحديث سيأتي قريبًا في باب وقت العصر، وفي باب ما يُكره مِن النوم قبل العشاء، وفي / السَّمر بعد العشاء، والقراءة في الفجر. وأخرجه مسلمٌ والأربعة.
          ثانيها: أبو المنهال اسمه سيَّار بن سلامةَ تابعيٌ ثقةٌ مات بعد المائة، ووالده ذكره العسكريُّ.
          وأبو بَرزَة اسمه: نَضْلَةُ بن عُبَيدٍ على الأصحِّ الأشهر فيه، شهد الفتح ومات بعد السِّتين، وهاء برزةَ ملفوظٌ بها، وهي تاءٌ في الوصل، وقد يشتبه بأبي بُرْدَة لكن خطًّا لا لفظًا، ولهم في الأسماء بُرْزَة بضم الباء شيخ ابن ماكُولا، ونَضْلَة يشتبه بنَضَلة بفتح الضَّاد في العرب، وببَصَلة بالمهملة، لقب محمَّد بن محمَّد الجرجانيِّ المقرئ.
          ثالثها: (كَانَ) هذِه تشعر بالدَّوام، وذكره الخمس دون الوتر دالٌّ على عدم وجوب الوتر خلافًا لأبي حنيفةَ.
          رابعها: معرفة الجليس النَّظر إلى وجهه، تؤيِّده رواية مسلمٍ: ((حينَ يعرفُ بعضنا وجه بعضٍ)). وليس في هذا مخالفةٌ لقول عائشة في النِّساء: ((ما يعرفهنَّ أحدٌ مِن الغلَسِ)) لأنَّ هذا إخبارٌ عن رؤية جليسه، وذاك إخبار عن رؤية النِّساء مِن بُعد، وهذا يقوِّي مَن يقول بتغليس الفجر، ويأتي _إن شاء الله_ في باب: وقت الفجر، وأمَّا باقي الحديث فذكر البخاريُّ لكلِّ منها بابًا مستقلًّا، وستقف عليه إن شاء الله.
          وقوله: (وَقَالَ مُعَاذٌ: قَالَ شُعْبَةُ) قد أخرجه مسلمٌ عن عُبيد الله بن معاذٍ عن أبيه عن شُعبةَ. ومعنى: (والشَّمْسُ حَيَّةٌ): لم تصفرَّ ولم تتغيَّر.
          الحديث الرابع: حديث أنس: (كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلعم بِالظَّهَائِرِ سجدنا على ثِيَابِنَا اتَّقَاءَ الحَرِّ) هذا الحديث تقدَّم في السُّجود على الثَّوب في شدَّة الحرِّ [خ¦385]، وسبب ذلك كثرة حرِّ الحجاز، وليس هذا في حين شدَّة الحرِّ هذا الَّذي أُمِر فيه بالإبراد؛ لأنَّه صلعم كان جُلُّ أمره المبادرة، ويجوز أن يبادر في الحرِّ بالظُّهر، وقد أَمَرنا بالإبراد وأخذَ بالشِّدَّة على نفسه، ولئلَّا يظنُّ أحدٌ أنَّ الصَّلاة لا تجوز في الوقت الَّذي أَمر فيه بالإبراد، فأراد تعليم أمَّته والتَّوسعة عليهم. و(الظَّهَائِرُ) جمع ظهيرة، والظَّهيرة: شدَّة الحرِّ. وشيخ البخاريِّ فيه هو محمَّد بن مقاتلٍ، كما نصَّ عليه خلَفٌ، وشيخه عبد الله هو ابن المُبارَك.