التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب فضل صلاة العصر

          ░16▒ باب فَضْلِ صَلاَةِ العَصْرِ.
          554- ذكر فيه حديثين:
          أحدهما: حديث جَرير بن عبد الله: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم فَنَظَرَ إلى القَمَرَ لَيْلَة البَدْرِ، فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرُوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لاَ تُضَامُونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا على صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُروبِهَا فافْعَلُوا). ثمَّ قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39]. قَالَ إِسْمَاعِيلُ _يعني: ابن أبي خالدٍ_ الرَّاوي عن قيسٍ عن جريرٍ: افْعَلُوا لاَ تَفُوتنَّكُمْ.
          الكلام على ذلك مِن أوجه:
          أحدها: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا، وكرَّره البخاريُّ قريبًا في باب: فضل صلاة الفجر، ويأتي في التَّفسير والتَّوحيد أيضًا. وأخرجه والأربعة أيضًا، وطرَّقه الدَّارَقُطنيُّ في «علله». ولفظ البخاريِّ في التَّوحيد: ((إنَّكم سترونَ ربَّكُم عِيَانًا))، وفي التَّفسير: ((فنظرَ إلى القمرِ ليلةَ أربعَ عشرةَ))، وفي آخر قريبًا: ((لا تضامُون أو قَالَ: لا تُضاهُون في رؤيتِه))، وعند اللالَكَائيِّ عن البخاريِّ: ((إنَّكم ستُعرضون على ربِّكم وترونه كما ترون هذا القمر))، وعند مسلمٍ: ((ثمَّ قرأ جريرٌ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} الآية [الحجر:98]))، وله: ((فيتجلَّى لهم الربُّ تعالى))، وعن صُهَيبٍ عند مسلمٍ: ((فيُكشَفُ الحجابُ، فينظرُونَ إليه، فوالله ما أعطاهُم الله شيئًا أحبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إليه)).
          ثانيها: تظاهرت الأخبار والقرآن وإجماع الصَّحابة فمَن بعدهم على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، رواها عن النَّبِيِّ صلعم نحوٌ مِن عشرين صحابيًّا كما ذكره النَّوويُّ.
          وأنت إذا تأمَّلت ما ذكره اللالَكائيُّ والآجُرِّيُّ في «الشريعة» وأبو الشَّيخ في «السُّنَّة الواضحة» وأبو نُعيمٍ زاد على العشرين. وقد صرَّح بذلك ابن التِّين في «شرحه»، وهي مختصَّةٌ بالمؤمنين ممنوعةٌ مِن الكفَّار. وفي «سُنن اللالَكائيِّ» مِن حديث أنسٍ وأُبيِّ بن كَعبٍ وكَعب بن عُجْرَةَ: سُئل رَسُولُ الله صلعم عن الزيادة في كتاب الله تعالى قَالَ: ((النَّظر إلى وجهِه)). وعن ابن عمرَ: ((مِن أهلِ الجنَّة مَن ينظر إلى وجهه تعالى غُدْوةً وعشيَّةً)). / ومِن حديث أبي عُبَيدة عن أبيه وذكر الموقفَ: ((فيتجلَّى لهم ربُّهم)). وأبعد مَن قَالَ: يراه المنافقون أيضًا.
          ومَنع مِن ذلك المعتزلة والخوارج وبعض المُرجِئة بناءً على أنَّ الرُّؤية تلزمها شروط عقليَّةٌ اعتقدوها، وأهل السُّنَّة لا يشترطون شيئًا مِن ذلك، ومحلُّ الخوض في ذلك أصول الدِّيانات.
          ثالثها: قوله: (لاَ تُضَامُونَ) هو بضمِّ التاء المثنَّاة فوق مع تخفيف الميم، وعليها أكثر الرُّواة كما قَالَ ابن الجَوزيِّ. والمعنى: لا ينالكم ضَيمٌ. والضَّيم أصله الظُّلم. وهذا الضَّيم يلحق الرَّائي مِن وجهين:
          أحدهما: مِن مزاحمة النَّاظرين له، أي: لا تزدحمون في رؤيته، فيراه بعضكم دون بعض، ولا يظلم بعضكم بعضًا.
          والثاني: مِن تأخُّرِه عن مقام النَّاظر المحقِّق، وكأنَّ المتقدِّمين ضاموه.
          ورؤية الربِّ جلَّ جلاله يستوي فيها الكُلُّ بلا ضيمٍ ولا ضررٍ ولا مشقَّةٍ. ورواية البخاريِّ الَّتي أسلفناها: ((لَا تُضَامُّونَ أولاَ تُضَاهُونَ)) على الشَّكِّ، أي: لا يشتبه عليكم وترتابون فيعارض بعضكم بعضًا في رؤيته. وقيل: لا يشبِّهونه بغيره مِن المرئيَّات تقدَّس وتعالى.
          وُروي: ((تضامُّون)) بضمِّ التَّاء وتشديد الميم، ورُوي بفتح التَّاء وتشديد الميم، حكاهما الزَّجَّاج فيما حكاه ابن الجَوزيِّ، وقال: المعنى فيهما: لا تَضامُّون، أي: لا ينضمُّ بعضكم إلى بعض في وقت النَّظر لإشكاله وخفائه، كما يفعلون عند النَّظر إلى الهلال. ورُوي: <تُضارُّون> بالرَّاء المشدَّدة والتَّاء مضمومةٌ ومفتوحةٌ ذكرهما الزَّجَّاج أيضًا، قال: والمعنى لا تَضارُّون، أي: لا يُضارُّ بعضكم بعضًا بالمخالفة. وقال ابن الأنباريِّ: هو يتفاعلون من الضِّرار، أي: لا يتنازعون ويختلفون. ورُوي: ((تُضَارُوْنَ)) بضمِّ التَّاء وتخفيف الرَّاء، أي: لا يقع بكم في رؤيته ضيرٌ ما بالمخالفة والمنازعة أو لِخفاء المرئيِّ. ورُوي ((تُمَارُوْنَ)) مخفَّف الرَّاء، أي: تجادلون، أي: لا يدخلكم شكٌّ.
          رابعها، قوله: (فَإِن اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا) أي: لا يغلبكم عليها أحدٌ. وقول إسماعيل: (افعلوا لا يفوتنَّكم) زاد أبو نُعيمٍ في قول إسماعيل هذا: قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب.
          وقال المهلَّب: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا على صَلاَةٍ) يعني: شهودها في الجماعة، وخصَّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفع أعمالهم فيها؛ لئلَّا يفوتهم هذا الفضل العظيم، والصَّلاتان: الفجر والعصر.
          وقوله: (ثُمَّ قَرَأَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}) [ق:39] وقد أسلفت لك أنَّ جَريرًا قرأه مِن عند مسلمٍ. وقال شيخنا قطب الدِّين: لم يبيِّن أحدٌ في روايته مَن قرأ.
          ثمَّ ساق مِن طريق أبي نُعَيمٍ في «مستخرجه» أنَّ جريرًا قرأه، وقد علمت أنَّه في مسلمٍ فلا حاجة إلى عزوه إلى «مستخرجه». قالُوا: وجْه مناسبة ذكر الرؤية والصَّلاتين أنَّ الصَّلاتين مِن أفضل القُرَب؛ فإنه قَالَ تعالى في صلاة الفجر: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78] وصلاة العصر هي الوسطى على الصَّحيح، فكأنَّه يقول: دوموا على أفضل القرب تنالوا أفضل العطايا وهو الرُّؤية، فإنَّ بالمحافظة يتحقَّق الإيمان. والتَّسبيح في الآية: الصَّلاة.