التوضيح لشرح الجامع البخاري

بابُ وقت العصر

          ░13▒ باب وَقْتِ العَصْرِ.
          550- 551- وذكر فيه حديث أنسٍ بلفظَين:
          أحدهما: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُصَلِّي العَصْرَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ حَيَّةٌ، فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلى العَوَالِي فَيَأْتِيهمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ، وَبَعْضُ العَوَالِي مِنَ المَدِينَةِ على أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ أَوْ نَحْوِهِ).
          الثاني: (كُنَّا نُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يَذْهَبُ الذَّاهِبُ مِنَّا إلى قُبَاءٍ، فَيَأْتِيهِمْ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ).
          هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا والنَّسائيُّ، وهذا الباب مع ما قبله دالٌ على تعجيل العصر، وأنَّه السُّنَّة. وقد اختلف العلماء في أوَّل وقت العصر وآخره والأفضل مِن ذلك، فقال مالكٌ والثَّوريُّ وأبو يوسفَ ومحمَّدٌ وأحمد وإسحاق وأبو ثورٍ: أوَّل وقته إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله. زاد الشَّافعيُّ: وزاد أدنى زيادة. وقال أبو حنيفةَ: أوَّل وقته مصير الظِّلِّ مثليه بعد الزَّوال، ومَن صلَّاها قبل ذلك لم يجز. فخالف الآثار، وخالفه أصحابه، وعنه روايةٌ كالجماعة، واختارها الطَّحاويُّ.
          وعنه ثالثةٌ: إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثله خرج وقت الظُّهر، ولا يدخل وقت العصر حَتَّى يصير ظلُّ كلِّ شيء مثلَيه سوى فيء الزَّوال، وهي في «البدائع».
          ورابعةٌ: إذا صار الظِّلُّ أقلَّ مِن قامتين يخرج وقت الظُّهر، ولا يدخل وقت العصر حَتَّى يصير قامتين، وصحَّحه الكَرْخيُّ.
          وخامسةٌ: بين القامة والقامتين وقتٌ مهملٌ. وعن مالكٍ: إذا صار قامةً دخل وقت العصر ولم يخرج وقت الظُّهر بل يبقى بعد ذلك قدر أربع ركعاتٍ تصلح للظُّهر والعصر أداءً. وبه قَالَ ابن راهُويَه والمزنيُّ وابن جريرٍ وابن المبارك، وحُكي عن أبي ثَورٍ أيضًا. وحكى ابن قُدامةَ في «المغني» عن رَبِيعةَ أنَّ وقت الظُّهر والعصر إذا زالت الشَّمس. وعن عطاءٍ وطاوسَ: إذا صار كلُّ شيء مثله دخل وقت العصر، وما بعده وقتٌ لهما على سبيل الاشتراك حَتَّى الغروب.
          وأمَّا آخرُ وقت العصر فقال أكثر العلماء: غروبُ الشَّمس. وقال الحسن بن زِيادٍ: تغيُّرها إلى الصُّفرة. حكاه عنه السَّرخْسِيُّ، ثم قَالَ: والعِبرةُ بتغيُّر القُرص عندنا، وهو قول الشَّعبيِّ. وقال النَّخَعيُّ: لتغيُّر الضوء. وقال الإصْطَخْرِيُّ مِن أصحابنا: إذا صار ظلُّ كلِّ شيء مثلَيه خرج وقته، ويأثم بالتَّأخير بعدَه ويكون قضاءً، ولا يدخل وقت المغرب إلَّا بالغروب، وما بينهما وقت مهملٌ.
          وذكر أصحابنا للعصر خمسةَ / أوقاتٍ أوضحناها في «الفروع» وزدنا عليها.
          ونقل ابن رشدٍ عن الظَّاهريَّة أنَّ آخرَ وقتها قبل الغروب بركعة. وأمَّا الأفضل في وقت العصر فذكر التِّرمذيُّ أنَّ عمرَ وابن مسعودٍ وعائشة وأنسًا وغير واحدٍ مِن التَّابعين اختاروا تعجيلها، وكرهوا تأخيرها. قَالَ: وبه يقول ابن المبارك والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق. قلتُ: وبه قَالَ الأوزاعيُّ واللَّيث. وعند الحنفيَّة الأفضل تأخيرها ما لم تتغيَّر الشَّمس.
          وحُكي عن جماعة منهم أبو هُريرةَ وأبو قِلابةَ والنَّخَعيُّ والثُّوريُّ وابن شُبْرُمة، وروايةٌ عن أحمد. واختلفوا في تغيُّر الشَّمس، فقيل: بتغيُّر الشُّعاع عن الحيطان، وقيل: بوضع طستٍ في أرضٍ مستويةٍ فإن ارتفعت الشَّمس عن جوانبه فقد تغيَّرت وإن وقعت في جوفه لم تتغيَّر. وفي «المحيط» لهم: إذا كانت قدرَ رمحٍ لم تتغيَّر، ودونه قد تغيَّرت، وقيل: إن كان يمكن النَّظر إلى القرص مِن غير كُلفَةٍ ومشقَّة فقد تغيَّرت. والصَّحيح تغيُّر القرص.
          قَالَ المَرْغِينَانيُّ: والتَّأخير إلى هذا الوقت هو المكروه دون الفعل. وفي «المبسوط»: أنَّه يصلِّي العصر والشَّمس بيضاءُ نقيَّةٌ. وهذا كمذهب باقي الجماعة، ولهم الأحاديث الصَّحيحة الواردة في ذلك. وقال الأثرَمُ بعد ذكر أحاديث التَّعجيل والتَّأخير: إنَّما وجهها إن كانت محفوظةً أن يكون ذلك على غير تعمُّدٍ، لكنْ لعذرٍ أو لأمرٍ يكون.
          استدلَّ مَن قَالَ بالتَّأخير بأوجهٍ:
          أحدها: حديث يزيدَ بن عبد الرَّحمن بن عليِّ بن شيبان عن أبيه عن جدِّه قَالَ: ((قَدِمنا على رَسُول الله صلعم المدينةَ فكان يؤخِّرُ العصرَ مادامت الشَّمسُ بيضاءَ نقيَّةً)) أخرجه أبو داودَ وفي إسناده مَن يُجهَّل.
          ثانيها: حديث رافعِ بن خَدِيج ((أنَّه صلعم كان يأمرُ بتأخير هذه الصَّلاة يعني: العصرَ)). قَالَ الدَّارقطنيُّ: يرويه عبد الواحد بن نافعٍ وليس بالقويِّ، ولا يصحُّ هذا الحديث عن رافعٍ ولا عن غيره مِن الصَّحابة. والصَّحيح عن رافعٍ وغيره مِن الصَّحابة عن النَّبِيِّ صلعم التَّعجيلُ بصلاة العصر. وقال التِّرمذيُّ: يُروى عن رافعٍ مرفوعًا، ولا يصحُّ. وُروي تأخيرها مِن فعل عليٍّ وأنَّه السُّنَّة، وصحَّحه الحاكم، وفي التِّرمذيِّ عن أمِّ سلمة أنَّها قالت: ((كان رَسُولُ الله صلعم أشدَّ تعجيلًا للظُّهرِ منكم، وأنتم أشدُّ تعجيلًا للعصرِ منه)). واستدلُّوا أيضًا بحديث: ((يَتَعاقَبُون فيكم ملائكةٌ باللَّيلِ وملائكةٌ بالنَّهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر)) ولا دلالة فيه، ونقله الطَّحاويُّ عن إجماع الصَّحابة ولا يُسلَّم له.
          والأحاديث السَّالفة دالَّةٌ للجمهور: ((ثمَّ يذهب الذَّاهب إلى قُباء فيأتيهم والشَّمس مرتفعةٌ))، وكذا ((إلى العوالي)). وبعض العوالي على أربعة أميالٍ ونحوه، وفي «صحيح مسلمٍ»: ((صلَّى بنا النَّبِيُّ صلعم العصر، فلمَّا انصرف أتاه رجلٌ مِن بني سَلَمَةَ، فقال: يا رَسُولُ الله إنَّا نريد أن ننحرَ جزورًا لنا، ونحبُّ أن تحضُرها، فانطلقَ وانطلقنا معه، فوجدنا الجزورَ لم تُنحرْ فنُحِرت، ثمَّ قُطِّعت، ثمَّ طُبخ منها، ثمَّ أكلنا قبلَ أن تغيب الشَّمسُ))، وفي «مستدرك الحاكم»: ((كان أبعدَ رجلين مِن الأنصار من النَّبِيِّ صلعم أبو لُبَابَة وأبو عَبْسٍ ومسكَنُه في بني حارثة، فكانا يصلِّيان مع النَّبِيِّ صلعم العصر، ثمَّ يأتيان قومَهُما وما صلَّوا لتعجيله صلعم))، وصحَّ في صلاة المنافق أنَّه ينتظر حَتَّى إذا اصفرَّت الشَّمس قام فنقرها أربعًا، وغير ذلك مِن الأحاديث.