التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب إثم من فاتته العصر

          ░14▒ باب إِثْمِ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ العَصْرِ.
          552- ذكر فيه حديث ابن عُمَر: (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: الَّذِي تَفُوتُهُ صَلاةُ العَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ).
          الكلام عليه مِن أوجهٍ:
          وهو حديثٌ ليس في الإسلام حديثٌ يقوم مقامه؛ لأنَّ الله تعالى قَالَ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ولا يوجد حديثٌ فيه تكييف المحافظة غيره، نبَّه عليه ابن بطَّالٍ.
          أحدها: هذا الحديث أخرجه مسلمٌ أيضًا مِن طريق مالكٍ عن نافعٍ، وابن شهابٍ عن سالمٍ. وأخرجه الكَشِّيُّ مِن حديث حمَّاد بن سلَمةَ عن أيُّوب عن نافعٍ، وزاد في آخره: ((وهو قاعدٌ)). وأخرجه النَّسائيُّ مِن حديث نَوفَل بن معاويةَ. وزعم أبو القاسم في «الأوسط» أنَّ نوفلًا رواه عن أبيه معاويةَ بلفظ: ((لأن يوتَر أحدكُم أهلَه ومالَه خيرٌ له مِن أن تفوته صلاةُ العصرِ)).
          ثانيها: (وُتِرَ) بضمِّ الواو أي: نُقِص، يُقال: وترته إذا نقصته، فكأنَّه جعله وِترًا بعد أن كان كثيرًا.
          وفي بعض نسخ البخاريِّ هنا: <قَالَ أبو عبد الله: {يَتِرَكُمْ} [محمد:35] أي: ينقصكم>. وترتَ الرَّجل: إذا قتلت له قتيلًا أو أخذتَ ماله. قَالَ الخطَّابيُّ وغيره: نُقِص هو أهله وماله، وسُلِبهم فبقي بلا أهلٍ ولا مالٍ، فليحذر مِن تفويتها كحذره مِن ذهاب أهله وماله.
          وقال ابن عبد البرِّ: معناه عند أهل اللُّغة أنَّه كالُّذي يُصاب بأهله وماله إصابةً يطلب بها وِترًا، والوتر: الجنايةُ الَّتي يُطلب ثأرها، فيجتمع عليه غمَّان: غمُّ المصيبة، وغمُّ مقاساة طلب الثَّأر.
          وقال الدَّاوديُّ مِن المالكية: معناه: يتوجَّه عليه مِن الاسترجاع ما يتوجَّه على مَن فقد أهله وماله، فيتوجَّه عليه النَّدم والأسف لتفويته الصَّلاة. وقيل: معناه: فاته مِن الثَّواب ما يلحقُه مِن الأسف كما يلحق مَن ذهب أهلُه وماله. وهذا كلُّه على رواية مَن روى أهلَه ومالَه بالنصب، وهو الصَّحيح المشهور على أنَّه مفعول ثانٍ لوُتِر، وأضمر فيه مفعول ما لم يُسمَّ فاعله عائدًا إلى الَّذي فاتته الصَّلاة. وقيل: معناه وُتِر في أهله وماله، فلما حُذف الخافض انتصب. ومَن رواهما بالرَّفع فعلى ما لم يُسمَّ فاعله، وقال بعضهم: على أنَّه بدل اشتمالٍ أو بدل بعضٍ، ومعناه: انتُزع منه أهلُه وماله وذُهِب بهم، وهو تفسير الإمام مالكٍ.
          ثالثها: اختُلِف في المراد بفوات العصر في الحديث، فقال ابن وَهْبٍ وغيره: فيمن لم يصلِّها في وقتها المختار. وقال الأَصِيليُّ وسُحنُون: هو أن تفوته بالغروب، وقيل: إلى الاصفرار. وقد ورد مفسَّرًا مِن رواية الأوزاعيِّ في هذا الحديث، قَالَ فيه: وفواتها أن تدخل / الشَّمس صفرةٌ.
          ورُوي عن سالمٍ عن أبيه أنَّه قَالَ: هذا فيمن فاتته ناسيًا. وقال الدَّاوديُّ: هو في العامد. وهو الأظهر للحديث الآتي في الباب بعده: ((مَن تركَ صلاةَ العصرِ حبطَ عملُه)). وهذا إنَّما يكون في العامد. وقال المهلَّب: هو فواتها في الجماعة لِمَا يفوته مِن شهود الملائكة اللَّيليَّة والنَّهاريَّة، ولو كان فواتها بغيبوبةٍ أو اصفرارٍ لبطل الاختصاص؛ لأنَّ ذهاب الوقت كلِّه موجودٌ في كلِّ صلاة.
          وفي «موطَّأ» ابن وَهْبٍ قَالَ مالكٌ: تفسيرها ذهاب الوقت. وعند ابن مَنْدَه: الموتور أهلَه ومالَه مَن وُتر صلاة الوسطى في جماعةٍ وهي صلاة العصر. وفي «تفسير الطبريِّ» عن سالمٍ أنَّ أباه كان يرى لصلاة العصر فضيلةً للَّذي قاله صلعم فيها، ويرى أنَّها الصَّلاة الوسطى. وفي «علل ابن أبي حاتمٍ»: ((مَن فاتته صلاةُ العصرِ، وفواتُها أن تدخل الشَّمس صفرةٌ...)) الحديث. قَالَ أبو حاتمٍ: التَّفسير مِن قِبَل نافعٍ.
          رابعها: تخصيصه صلعم بالعصر يحتمل أن يكون على حسب السُّؤال، وعلى هذا فالصُّبح والعِشاء ملحقٌ بها، وخُصَّت العصر لفضلها ولكونها مشهودةَ الملائكة عند تعاقبهم، وعلى هذا تشاركها الصبحُ، أو خُصَّت بذلك تأكيدًا وحضًّا على المثابرة عليها؛ لأنَّها تأتي في وقت أشغال الناس، وعلى هذا فالصبح أولى بذلك؛ لأنَّها تأتي وقت النَّوم، والأظهر أنها خُصَّت بالذكر؛ لأنَّها الوسطى على الصَّحيح، وبها تُختم صلوات النَّهار كما أسلفناه عن «تفسير الطَّبريِّ».