التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب قول الله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم}

          ░9▒ بَابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109]
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ☻: قَالَ أَبُو بَكْرٍ ☺: فَوَاللهِ يَا رَسُولَ الله لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ فِي الرُّؤْيَا، قَالَ: (لَا تُقْسِمْ).
          يريد البُخَاريُّ بِذَلِكَ مَا رواهُ فِي كتابِ التَّعبيرِ مُسنَدًا [خ¦7046].
          وذَكَرَهُ ابنُ أبي عاصمٍ بإسنادٍ جيِّدٍ إِلَى عُبيدِ الله بنِ عَبْدِ الله عن ابنِ عبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أبو هُرَيرةَ ☺ يُحدِّث أَنَّ رجُلًا مِن الأنصارِ قَالَ: يا رَسُوْل الله رأيتُ كأنَّ ظُلَّةً. الحَدِيْث، فجعلَهُ مِن مُسنَدِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
          والَّذي أخطأَ فِيْهِ أبو بكرٍ هُوَ تَقْدِمَتُه بينَ يَدَيْ رَسُوْلِ الله صلعم، وَقد أصاب فِي عبارتِه، واستحيا رَسُوْل الله صلعم أَنْ يقول له: أخطأتْ فِي تقدمتك بين يديَّ.
          ثمَّ ساق فِيْهِ أحاديثَ:
          6654- أحدُها: حَدِيْثُ الْبَرَاءِ: (أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلعم بِإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ).
          6655- ثانيها: حَدِيْثُ أُسَامَةَ: أَنَّ ابْنَةً لِرَسُولِ اللهِ صلعم أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ _وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ وأُبَيُّ_ أَنَّ ابْنِي قَدِ حُضِرَ فَاشْهَدْنَا، فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: (إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى) الحديث، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ. الحديثَ.
          6656- ثالثُها: حَدِيْثُ أَبِي هُرَيرةَ ☺ أنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلعم قَالَ: (لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَمَسُّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ).
          6657- رابعُها: حَدِيْثُ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: (أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الجنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، وَأَهْلِ النَّارِ كُلُّ جَوَّاظٍ عُتُلٍّ مُسْتَكْبِرٍ).
          وَسَلَفَ فِي التَّفسيرِ [خ¦4918].
          فَصْلٌ: مَن رَوَى: <بِإِبْرَارِ المُقْسَمِ عَليه> بفتْحِ السِّينِ فمعناهُ بإبرارِ الإقسام؛ لأنَّه قَد يأتي المصدر على لفظ المفعولِ كقولِه: أدخلتُه مُدخَلًا بمعنى إدخالٍ، وأخرجتُه مخرَجًا بمعنى إخراجٍ.
          فَصْلٌ: قال المهلَّب: قولُه تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] دليلٌ عَلى أنَّ الحَلِفَ باللهِ أكبرُ الأَيمان كلِّها لأنَّ الجَهْدَ شِدَّةُ المشقَّةِ.
          فَصْلٌ: اختلف العلماءُ في قولِ الحالفِ: أقسمتُ باللهِ، عَلَى أقوالٍ سلفتْ فِي بابِ لا تحلفوا بآبائكم.
          وقال مالكٌ: أُقسِمُ لا يكون يمينًا حتَّى يقولَ باللهِ أو ينويَ به اليمينَ، فإنْ لَمْ ينْوِ فَلا شيءَ عليه، ورُوِيَ مِثْلُه عن الحسَنِ وعَطَاءٍ وقَتَادةَ والزُّهْرِيِّ. وقال الشَّافعيُّ: أُقسِمُ ليستْ بيمينٍ وإنْ نواها، بخلافِ أُقْسِمُ بالله فإنَّها يمينٌ إنْ نواها، ورَوَى عنه الرَّبيعُ أنَّه إذا قال: أُقسِمُ، ولم يقلْ: بالله، فهو كقولِه: واللهِ.
          واحتجَّ الكوفيُّون بروايةِ مَن رَوَى في حديثِ أبي بكرٍ ☺: أقسمْتُ عليكَ يا رسولَ الله لَتُحَدِّثَنِّي، فقال ◙: ((لَا تُقْسِمْ)) وبحديثِ البراءِ فِي البابِ، قالوا: ولم يقلْ بِالله. وبحديثِ أُسَامةَ بنِ زيدٍ أَيضًا: (أَرْسَلَتْ تُقْسِمُ عَلَيْهِ) ولم يقلْ: بالله، وبقولِه: (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) ولم يأتِ في شيءٍ مِن هذه الأحاديثِ ذِكْرُ اسمِ الله.
          قالوا: وقد جاء في القرآنِ ذِكْرُ اسمِ اللهِ مع القَسَمِ في موضعٍ ولم يأتِ في موضعٍ آخَرَ اكتفاءً بما دلَّ عليه اللَّفظُ، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] فَذَكَرَ اسمَه تَعَالَى، وقال تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] فَحَذَفَ اسمَه تَعَالَى، فدلَّ أنَّ أحدَ الموضعينِ يُفيدُ مَا أفادَهُ الآخَرُ.
          وقال السِّيرافيُّ: لا تكون أُقْسِمُ إلَّا يمينًا لدخولِ اللَّام في جوابِها، ولو كانت غيرَ يمينٍ لَمَا دخلتِ اللَّامُ في الجوابِ لأنَّك لا تقول: ضربتُ لأفعلنَّ كما تقولُ: أقسمتُ لأفعلنَّ. وحُجَّةُ مالكٍ قولُه ◙: ((الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى)) ومَن لم ينو اليمينَ فلا يمين له، وأيضًا فإنَّ العادةَ جَرَتْ بأنْ يحلِفَ النَّاسُ عَلى ضُرُوبٍ، فمنها اللَّغوُ يُصرِّحُون فيه باسمِ الله تَعَالَى ثمَّ لا تلزمُهم الكَفَّارَة لعدمِ قصدِهم إلى الأَيمان، فالموضع الَّذي عُدِم فيه التَّصريحُ وَالقصدُ أَولَى أَلَّا تجبَ فيه كفَّارةٌ، قاله ابن القصَّار.
          قال: وقال أصحابُ الشَّافعيِّ: اليمينُ تكون يمينًا لِحُرمةِ اللَّفظ، وإذا قال: أقسمتُ، فلا لفظَ هنا له حُرمةٌ، وكلُّ ما احتجَّ به الكوفيُّون فهو حُجَّةٌ عَلى غيرِه.
          قال ابنُ القَّصار: ويُقال له: قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] فوَصَلَ القَسَمَ باسمِه تعالى فكان يمينًا، وقال في موضعٍ آخَرَ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] فأطلقَ القَسَمَ ولم يقيِّدْه بشيءٍ، فوجب أنْ يُحمَلَ المطلَقُ على المقيَّد، كالشَّهادةِ قُرِنَتْ بالعدالةِ في موضعٍ وعَرِيَتْ في موضِعٍ مِن ذِكْرِها، وكالرَّقبةِ في الكَفَّارَةِ قُيِّدتْ في موضعٍ بالإيمانِ وأُطلِقَتْ فِي آخرَ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ المنذرِ: وأَمْرُ الشَّارعِ بإبرارِ المقسِمِ أَمْرُ ندْبٍ لا وجوبٍ؛ لأنَّ الصِّدِّيقَ أقسمَ على رَسُوْلِ الله صلعم فلم يُبِرَّ قَسَمَهُ، ولو كان ذلك واجبًا لبادرَ، وَلم يشأْ رَجلٌ أنْ يسألَ آخَرَ بأنْ يَخرُجَ له مِن كلِّ مَا يملِكُ ويُطَلِّقَ زوجتَه، ثمَّ يحلِفُ على الإمامِ في حدٍّ أصابَه أنْ يُسقِطَهُ عنه إلَّا تَمَّ له، وفي ذلك تعطيلُ الحدودِ وتركُ الاقتصاص ممَّا فيه القِصاص، وإذا لم يَجُزْ ذلك كان معنى الحديثِ النَّدبُ فيما يجوز الوقوفُ عنه دون ما يجوز تعطيله.
          وقال المهلَّب: إبرارُ القَسَمِ إنَّما يُستحبُّ إذا لم يكن في ذلك ضررٌ على المحلوفِ عليه أو على جماعةِ أهلِ الدِّين، لأنَّ الذي سكتَ عنه رَسُولُ الله صلعم مِن بيان موضِعِ الخطأِ / في تعبيرِ الصِّدِّيقِ هو عائدٌ عَلى المسلمين بِهَمٍّ وغَمٍّ؛ لأنَّه عبَّرَ قِصَّةَ عثمانَ بأنَّه يُخلَعُ ثمَّ يراجِعُ الخلافةَ، فلو أخبره الشَّارعُ بخطئِه لأخبرَ النَّاس أنْ يُقتَلُ وَلا يَرجِعُ إلى الخِلافةِ، فكان يُدخِلُ عَلى النَّاسِ فِتنةً بِقِصَّةِ عُثمانَ مِن قَبْلِ كونِها، وَكذلك لو أقسم على رجلٍ لَيشْرَبَنَّ الخمرَ مَا وجب عليه إبرارُ قَسَمِه، بل الفرضُ عليه ألَّا يُبِرَّهُ.
          واختلف الفقهاء إذا أقسمَ عَلى الرَّجُلِ فحَنَّثَه فرُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ ☻ أنَّ الحالِفَ يُكفِّرُ، ورُوِيَ مِثْلُه عَن عَطَاءٍ وقَتَادَةَ، وهو قولُ أهلِ المدينةِ والعِراقِ والأوزاعِيِّ. وفيها قولٌ ثانٍ رُوِيَ عَن عائِشَةَ أمِّ المؤمنين: أنَّ مولاةً لها أقسمتْ عليها في قَدِيدَةٍ تأكلُها فَأَحْنَثَتْهَا عائِشَةُ، ((فجعل ◙ تكفيرَ اليمينِ على عائِشَةَ)) قال ابنُ المنذر: وإسناده لا يَثبتُ. وفيها قولٌ ثالثٌ رُوِيَ عن أبي هُرَيرةَ وعُبَيدِ الله بنِ عبدِ الله بن عُتْبةَ بن مسعودٍ أنَّهما لا يجعلانِ في ذلك كفَّارةً، قال عُبَيد اللهِ: أَلَا تَرَى أنَّ الصِّدِّيق قال مَا قال فقال له الشَّارع: (لاَ تُقْسِمْ) قال: ولم يَبْلُغْنا أنَّه أَمَرَهُ بالتَّكفيرِ.
          قال ابنُ المنذرِ: ويُقال لمن قال: إنَّ الكَفَّارَة تجِبُ على المقسَمِ عليه، ينبغي أن توجِبَ الكَفَّارَةَ على الشَّارعِ فِي قصَّة الصِّدِّيقِ.
          فَصْلٌ: قولُه فِي حَدِيْثِ أُسامةَ: (وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ) قال شَمِرٌ: قال خالدُ بن حبيبٍ: أَي كلَّما صار إِلَى حالٍ لم يلبَثْ أَنْ يصيرَ إِلَى آخَرَ ويَقْرُبُ مِن الموتِ لا يثبُتُ عَلَى حَالٍ واحدةٍ، يُقَالُ: تَقَعْقَعَ الشَّيء إِذَا اضطربَ وتحرَّكَ.
          فَصْلٌ: وقولُ سعْدٍ (مَا هَذَا؟) يريد الاستفهامَ، ليسَ أنَّه يعيبُ عَلَى رَسُوْلِ الله صلعم، ولعلَّه سمعَه ينهَى عن البُكاءِ الَّذِي فِيْهِ الصِّياحُ أو العويلُ فَظَنَّ أنَّه نَهَى عَن البُكاء كلِّه. وفيه أنَّهم كَانوا يستفهمونَه فيما يخشَونَ عَليه فِيْهِ السَّهوَ لأنَّه بشرٌ، ويَنْسَى لِيَسُنَّ كَما قاله.
          فَصْلٌ: المراد بِـ (تَحِلَّةَ القَسَمِ) فِي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قولُه تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] قيل: تقديرُه: واللهِ إنْ منكم إِلَّا واردُها، وقيل: هُوَ معطوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم:68].
          فَصْلٌ: وَالجَوَّاظُّ كما قال أبو زيدٍ الأنصارِيُّ: الكثيرُ اللَّحمِ المختالُ في مِشيتِه، يُقال: جَاظَ يَجُوظُ جَوْظًا، وقال الأصمعِيُّ مِثْلَهُ، وَكذا الجَوْهَرِيُّ: الجوَّاظُ الضَّخْمُ المُخْتَالُ في مِشيتِه، وفي «العين»: الجوَّاظُ الأَكُولُ، ويُقَالُ: الفاجِرُ. وقَالَ الدَّاوديُّ: إنَّه الكثيرُ اللَّحْمِ الغليظُ الرَّقَبَةِ. قال: والعُتُلُّ الفاحشُ الأَثِيمُ. والمُسْتَكْبِرُ المتكبِّرُ الجبَّارُ فِي نفْسِهِ المحتقِرُ للنَّاسِ.
          وقال الهَرَويُّ: قال أحمدُ بن عُبَيدٍ: هُوَ الجَمُوعُ المَنوعُ، وقال عَن غيرِه: هُوَ القَصِيرُ البَطِينُ، وذُكِرَ أَيضًا مثل مَا تقدَّمَ عَن الجَوهَرِيِّ، وكذا فسَّره ابنُ فارسٍ. وقال القزَّاز: هُوَ الجافي الغليظُ، قَالَ: وَكذا العُتُلُّ، وَمِنْهُ قولُه تَعَالَى:{عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13] وكذلك فِي «الصِّحاح» فِي العُتُلِّ أنَّه الغليظُ الجافي. وفي «كتابِ ابنِ فارسٍ» أنَّه الأكُولُ المَنُوعُ، وعبارةُ ابنِ بطَّالٍ: العُتُلُّ الأَكُولُ.