التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اليمين الغموس

          ░16▒ بَابُ اليَمِينِ الغَمُوسِ
          {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ}إِلَى آخِرِ الآية [النحل:94]{دَخَلًا}: مَكْرًا وخِيَانَةً.
          6675- ثُمَّ ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ☻، عَنِ النَّبيِّ صلعم قَالَ: (الْكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ).
          الشَّرح: (الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) هي أنْ يحلِفَ الرَّجُلُ عَلى الشَّيءِ وهو يعلمُ أنَّه كاذبٌ ليُرضِي بذلك أحدًا أو ليُعْذَرَ أو ليقتطِعَ بها مالًا، وَهي أعظمُ مِن أن تُكفَّرَ، سُمِّيت غَمُوسًا لأنَّها تَغْمِسُ صاحبَها فِي الإثمِ، ولا كفَّارةَ فيها عند مالكٍ، قال مالكٌ: هي أعظمُ مِن ذَلِكَ.
          قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وَلا تصحُّ إِلَّا فِي الماضي، قَالَ: وَأكثرُ أَهْلِ العلمِ لا يَرَوْنَ فيها الكَفَّارَة، ونقله ابنُ بطَّالٍ أَيضًا عن جمهورِ العلماء، وبه قال النَّخَعيُّ والحسنُ البصرِيُّ ومالكٌ ومَن تَبِعَهُ مِن أهلِ المدينةِ، والأوزاعِيُّ في أهلِ الشَّامِ، والثَّوريُّ وسائرُ أهلِ الكوفةِ، والحسنُ بن صالحٍ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ وأبو عُبيدٍ وأصحابُ الحديث.
          وفيها قولٌ ثانٍ رُوِيَ عن الحكمِ بن عُتَيبةَ أَنَّ فيها الكَفَّارَة، قال عَطَاءٌ: ولا يَزِيدُ بالكَفَّارَةِ إلَّا خيرًا. وهو قولُ الشَّافعيِّ والأوزاعِيِّ ومَعْمَرٍ وطائفةٍ مِن التَّابعين فيما ذَكَرَهُ المَرْوَزِيُّ، فإنِ اقتطعَ بها حقَّ امرئٍ مُسلمٍ أو ذِمِّيٍّ فالرَّدُّ واجبٌ. قال الشَّافعيُّ: والكَفَّارَةُ فِي هَذَا أوكدُ منها عَلَى مَن لم يتعمَّدِ الحِنْثِ بيمينِه.
          قال محمَّدُ بن نصرٍ المَرْوَزِيُّ فِي كتابِه «اختلاف العلماء» بعدَ أَنْ نَقَلَ أنَّه لا كفَّارةَ عليه فِي قولِ عامَّةِ العلماءِ مالكٍ وسفيانَ وأصحابِ الرَّأي وأحمدَ وأبي ثورٍ، وكَانَ الشَّافعيُّ يقولُ: يُكَفِّرُ، ويُرْوَى عن بعضِ التَّابعين مِثْلُهُ: أَمِيلُ إِلَى قولِ مالكٍ ومَن تبعه.
          واحتجَّ الشَّافعيُّ بأنْ قال: جاءتِ السُّنَّةُ فيمَن حَلَفَ ثمَّ رأى خيرًا ممَّا حَلَفَ عليه أنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ ثمَّ يُكَفِّر، وهذا قد تعمَّدَ الحِنْثَ وأُمِرَ بالكَفَّارَة، فقيل له: إنَّ الشَّارع أَمَرَهُ أنْ يَحْنَثَ فَعُلِمَ أنَّ ذلك طَاعةٌ، فلمَّا كان عاصيًا وَالحانثُ مطيعًا افترق حكمهُما.
          وحُجَّةُ مَن نفاها أحاديثُ منها: قولُه ◙: ((مَن حَلَفَ / عَلَى مِنبَري إِنَّمَا يتبوَّأُ مقعدَه مِن النَّار)) ومنها حَدِيْثُ: ((مَنِ اقتطعَ مالَ امرِئٍ مُسلمٍ بيمينِه حرَّم اللهُ عليه الجنَّةَ وأوجبَ له النَّار)) ومنها حَدِيْثُ ابنِ مسعودٍ ☺: ((لَقِيَ اللهَ وَهو عليه غضبانُ)) فذَكَرَ الإثمَ ولم يَذْكُرْ فيها كفَّارةً وَلو كَانَت لذُكِرَتْ.
          وقال ابنُ المنذر: الحَدِيْثُ فِي قَوْلِه: ((فَلْيَأتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ)) فيمَنْ حَلَفَ عَلى فِعْلٍ يفعلُه في المستقبلِ فلا يفعلُه، أو لا يفعلُه فَفَعَلَه، وَليس هَذا المعنى في اليمينِ الغَمُوس، أَلا ترى أنَّ الرَّجُلَ إذا حَلَفَ على المستقبَلِ أو قاله مِن غيرِ أنْ يحلِفَ عليه، فإنَّما عَقَدَ شيئًا قد يكونُ وقدْ لا يكونُ، فخرَج مِن بابِ الكَذِبِ، قَالَ: وَلا نعلمُ خبرًا يدلُّ عَلَى الموجب، والكتابُ والسُّنَنُ دالَّةٌ عَلَى النَّفي. قَالَ: والأخبارُ دالَّة عَلَى أَنَّ اليمينَ الَّتِي يحلف بها الرَّجُلُ يقتطع بها مالًا حرامًا هِي أعظمُ مِن أَنْ يكفِّرَها مَا يكفِّرُ اليمينَ.
          قال القاضي إسماعيلُ: وينبغي للشَّافعيِّ ألَّا يُسمِّي مَن تعمَّدَ الحَلِفَ عَلى الكذِبِ آثمًا إذا كفَّرَ يمينَه؛ لأنَّ الله تَعَالَى جعل الكَفَّارَةَ في تكفيرِ اليمينِ، وقد قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}الآية [المجادلة:14] وقال ابنُ مسعودٍ ☺: كنَّا نَعُدُّ الذَّنبَ الَّذي لا كفَّارةَ له اليمينَ الغَمُوسَ أنْ يحلِفَ الرَّجُلُ على مالِ أخيه كاذبًا ليِقتَطِعَهُ. ولا مخالف مِن الصَّحابة، فصارَ كالإجماع، وقد أخبر الشَّارعُ أنَّ مَن فعل ذلكَ فقد حرَّم الله عليه الجنَّةَ وأوجبَ له النَّار.
          قلتُ: الشَّافعيُّ ☺ لم يعتبرْ فِي اليمينِ الانعقادَ وإِنَّمَا اعتبر العَقْدَ، والعَقْدُ صُورَةً وُجِدَ فلذلك أوجب الكَفَّارَةَ لِعظيمِ جنايتِه فيما أتى به، والإثمُ باطنًا باقٍ.
          قال ابن المنذر: وأمَّا قولُه تَعَالَى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة:2] فَلا يجوز أنْ يُقاس ذلكَ عَلى اليمينِ الغَمُوس لأنَّه لا يُقاس أصلٌ على أصلٍ، ولو جاز قياسُ أحدِهما عَلى الآخَرِ لكان أحدُهما فرعًا، ولَلَزِمَ أنْ يكون عَلى الحالفِ بهذه اليمينِ الَّتِي شُبِّهَتْ بالظِّهار كفَّارةُ الظِّهار، وليس لأحدٍ أنْ يوجِبَ كفَّارةً إلَّا حيثُ أوجبها اللهُ ورسولُه.
          قالوا: ومِن الحُجَّةِ في إسقاط الكَفَّارَةِ حَديثُ الباب، وقد أجمعتِ الأُمَّة أنَّ الإشراكَ باللهِ والعقوقَ وقتْلَ النَّفْسِ لَا كفَّارةَ فيها، وإنَّما كفَّارتُها ترْكُها والتَّوبةُ مَنها، فكذلك اليمينُ الغَمُوسُ حُكمُها حُكْمُ ما ذُكِرَ معها في الحديثِ فِي سقوطِ الكَفَّارَة.
          قلتُ: لا يلزَمُ الشَّافعيَّ هَذَا؛ فالجمع بين مختلَفِ الأحكامِ جائزٌ وَلا يلزم التَّساوي فِي الحكم، قال تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ} [النور:3] والإيتاء واجبٌ والكِتَابَةُ لا تجب، وقال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] والإيتاء واجبٌ والأكلُ ليس بواجبٍ.
          ثمَّ قالوا: والدَّليلُ على أنَّ الحالِفَ بها لا يُسمَّى عاقِدًا ليمينِه قولُه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة:89] والعَقدُ لغةً عبارةٌ عَن الإلزام وَالتَّوثُّقِ، يُقال: عَقَدْتُ على نفْسِي أنْ أفعلَ، أي التزمتُ، فمنْ قال: لِقِيتُ زيدًا، وما لَقِيَهُ، فلمْ يُلزِمْ نفْسَهُ شيئًا، ولا ألزَمَ غيرَه أَمْرًا يجبُ الامتناعُ مِنه وَالإقدامُ عليه، فَلا يُسمَّى عَاقِدًا. ومعنى الاستيثاقِ هو أنْ يَسْتَوثِقَ بالعَقْدِ حتَّى لا يواقِعَ المحلوفَ عليه، وهَذا معنى لا يحصُلُ في اليمينِ الغَمُوس لأنَّها منحلَّةٌ بوجودِ الحِنْثِ معها، فَلا يُسمَّى عَقْدًا إذِ المنعقدُ مَا أمكن حلُّه إِذَا انعقَدَ، أَلا تَرى أنَّ اللَّغوَ لَمَّا لم يكن يمينًا معقودةً لم تجب فيها كفَّارةٌ، كذلك اليمينُ الغَمُوسُ إذْ لا يتأتَّى فيها بِرٌّ وَلا حِنثٌ وَلا لغوٌ. وقد علمتَ جواب هَذَا، وسيأتي فِي آخِرِ بَابِ اليمينِ فيما لا يملك فصلٌ يتعلَّق بالباب.