التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا حنث ناسيًا في الأيمان

          ░15▒ بَابٌ إِذَا حَنِثَ نَاسِيًا فِي الأَيْمَانِ
          وَقَوْلِ اللهِ ╡:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5]. وَ{قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف:73].
          أخرج البُخَاريُّ الآيَةَ الأُولَى فِي كلِّ شيءٍ، وَغيرُه قَالَ: هِي فِي قصَّةٍ مخصوصةٍ، إِمَّا فِي الشَّخص يقول: يا أبي، وليس هُوَ ابنَه، أو فِي الرَّجُلِ يأتي امرأتَه حائضًا وَلا يعلم، أَلَا ترى أَنَّ القتلَ خطأً يوجب الدِّيةَ، وإتلافَ المالِ كذلك يوجب الغُرْمَ.
          وساق فِي الباب أحاديث سنقف عليها.
          واختلَفَ العلماءُ فيمن حَنِثَ ناسيًا هَل تجبُ عليه كَفَّارَةٌ أم لا؟ عَلَى قولين:
          أحدُهما: لا، قال عَطَاءٌ وَعَمْرو بن دِينارٍ في الرَّجُلِ يحلِفُ بالطَّلاقِ عَلى أمرٍ أَلَّا يفعلَه فَفَعَلَهُ ناسيًا: لا شيءَ عليه، وقاله إسحاقُ أَيضًا.
          وثانيهما: نعمْ _وَهو قولٌ طائفةٍ_ في كلِّ شيءٍ الكَفَّارَةُ لازمةٌ عليه سواءٌ كَانَ ظِهارًا أو طلاقًا أو عِتاقًا، وَهو قولُ سعيدِ بن جُبَيرٍ وقَتَادةَ والزُّهْرِيِّ ورَبِيعةَ، وبه قال مالكٌ والكوفيُّون. واختلَفَ قولُ الشَّافعيِّ فَمَرَّةً قال: لا يَحْنَثُ، وهو الأظهرُ، وقال مرَّةً: يَحْنَثُ.
          وفيه قولٌ ثالثٌ: أنَّه يَحْنَثُ في الطَّلاقِ خاصَّةً، وهو قولُ أحمدَ، وحكى ابنُ هُبَيرةَ عَنْهُ ثلاثَ رواياتٍ: يَحْنَثُ مطلَقًا، لا مطلًقًا، إنْ كَانَت اليمينُ باللهِ تَعَالَى أو بالظِّهارِ لم يَحْنَثْ وإنْ كَانَتْ بالطَّلاقِ أو العِتاقِ حَنِث.
          احتجَّ المُسقط لها بالكتاب والسُّنَّة، أمَّا الكتابُ فَبَيَّن تَعَالَى أنَّه لا جناح علينا إِلَّا فيما تعمَّدتْ قلوبُنا، والآيَةُ الثَّانيةُ: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف:73] والسُّنَّةُ قولُه ◙: ((وُضع عَن أُمَّتِي الخطأُ والنِّسيان وما استُكرِهوا عليه)) فوجب أنْ يكون موضوعًا مِن كلِّ وجهٍ إلَّا أنْ يقوم دليلٌ. قالوا: ووجدْنا النِّسيانَ لا حُكْمَ له في الشِّرْعِ مثلَ كلامِ النَّاسي في الصَّلاة، فوجب أنْ يُحمَلَ عليه كلامُه إذا حَنِث ناسيًا.
          عارضَهم الموجِبُ لها قال: الآيَةُ لا تنفي وجوبَ الكَفَّارَةِ لأنَّه قَد أوقع الحِنْثِ فلا يكون عليه جُناحٌ والكَفَّارَةُ تَجِب، وإنَّما أراد بِرَفْعِ الجُناحِ الضِّيقَ والإثمَ، ألَا ترى أنَّ الكَفَّارَةَ تجِبُ فِي قَتْلِ الخطأِ مَع رَفْعِ الجُناحِ والإثمِ.
          قال المُنفي: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة:198] لا إثمَ وَلا كفَّارةَ. عارضَهمُ الموجِبُ: المرادُ لا إثْمَ لأنَّه وُجِدَ منه الفعلُ عَلَى وجهٍ يُنسَبُ إليه كالعامدِ. واعتُرِضَ بالمُكرَهِ، فأجابوا بأنَّ الفِعْلَ لا يُنسَبُ إليه بل إِلَى مَن أكرَهَ.
          فَصْلٌ: قال المهلَّب: هذه الأحاديث الَّتِي أدخلها البُخاريُّ في البابِ إنَّما حاول فيها إثباتَ العُذْرِ بالجهلِ والنِّسيانِ وإسقاطَ الكَفَّارَةِ، وَجعلها كلَّها في معنى واحدٍ عندَ الله، واستدلَّ بأفعالِه وأقوالِه، وما بَسَطَهُ مِن عُذرِ مَن جَهِلَ أو تأوَّلَ فأخطأَ، وبما حَكَمَ به في النِّسيانِ في الصَّلاةِ وغيرِها.
          والَّذي يوافِقُ تبويبَه قولُه ◙: (إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا) وَحديث أبي هُرَيرةَ: (مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) وَلم يأمرْهُ بالإعادةِ، وحديثُ ابْنِ بُحَيْنةَ فيما نَسِيَهُ ◙ مِن الجلوسِ فِي الصَّلاةِ فلم يُعِدْهُ على حَسَبِ ما نَسِيَهُ ولا قضاهُ، وَكذلك نسيانُ موسى لم يطالِبْ به الخَضِرُ بعدَ أن كان شَرَطَ عليه ألَّا يسألَه عَن شيءٍ، فلمَّا سَمَحَ له الخَضِرُ وَهو عبدٌ مِن عبادِ الله كان اللهُ أَولى بالعفوِ عَن مِثْلِ ذلك فصدَّرَ به البخاريُّ على سبيلِ قُوَّةِ الرَّجاءِ في عفوِ الله.
          وَكذا قولُه:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] يعني في قِصَّة التَّبنِّي الَّذي قد كان لَصِقَ بقلوبِ العربِ وغَلَبَ عليهم مِن نسبةِ المُتَبَنَّيْنَ إلى مَن تبنَّاهم لا إِلَى آبائِهم، فعذَرَهم اللهُ بِغَلَبَةِ العادةِ وَآخَذَهم بما تعمَّدُوهُ مِن ذلك. وأمَّا غيرُ ذلك / ممَّا ذُكِرَ مِن المعاني في هذا البابِ فإنَّما هي عَلى التَّشبيه.
          فَأمَّا قولُه: (لَا حَرَجَ) فيما قدَّمَهُ مِن النُّسُك، فإنَّما عَذَرهم بالجهالةِ لِحُدودِ مَا أَنزَلَ اللهُ في كتابِه، وكان فَرْضُ الحجِّ لم تنتشِرْ كيفيَّتُه عِند العرب حتَّى كان ◙ هو الَّذِي تَولَّى بيانَه عملًا بنفْسِه، فلم يُوجِبْ على المخطئِ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ فِديةً لِغَلَبَةِ الجَهالةِ.
          فإنْ قلتَ: في أحاديثِ البابِ مَا يدلُّ عَلى السُّقوطِ ومَا يدلُّ عَلى الإثبات كَحديثِ: (اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ) وَحديثِ ابنِ مسعودٍ (فَلْيَتَحَرَّ الصَّوابَ) وَحديثِ ابنِ نِيَارٍ في الأُضْحِيَةِ.
          قلتُ: أمَّا الأوَّلُ فإنَّه كَانَ قد تقدَّمَ العلمُ بِحُدُودِ الصَّلاةِ مِن الشَّارع فلم يَعذُرِ النَّاقصَ منها فَأَمَرهُ بالإعادةِ ثمَّ أوسعَه لَمَّا حَلَفَ له أنَّه لا يعرِفُ غيرَ هذا مَا أوسعَ أهلَ الجهالةِ مِن أنْ لمْ يأمُرْهُ بَعْدَ يمينِه بالإعادةِ لِمَا سَلَفَ قَبْلَها.
          وأمَّا الثَّاني فمُختلِفٌ معناه لأنَّ المتروكَ مِن السُّنن نسيانًا لا يَرجِعُ إليه بَل يجبُرُه بغيرِه مِن السُّنن، كما جَبَرَ الجلسةَ المتروكةَ بالسَّجدتينِ المسنونتين، وَأمَّا مَا تُرِكَ مِن الفَرْضِ فلا بُدَّ مِن الإتيانِ به وإرغامِ أَنْفِ الشَّيطانِ بالسُّجود الَّذي بِتَرْكِهِ خُلِّدَ في الجحيم، وَذلك لتقدُّم المعرفةِ بهيئة الصَّلاةِ سُننًا وفرائضَ.
          وأمَّا إعادةُ الأُضحيةِ فَعَذَرَ الشَّارعُ ابنَ نِيَارٍ بما توهَّمه جائزًا له مِن إكرامِ الضَّيفِ وإطعامِ الجيرانِ، فجوَّز عَنْهُ مَا لا يجزئ عَن أَحَدٍ بَعْدَهُ، وأوجَبَ عليه الإعادةَ لِتَقَدُّمِ المعرفةِ بالسُّنَنِ، وقَطْعِ الذَّريعةِ إِلَى الاشتغالِ بالأكلِ عَن الصَّلاةِ الفاضلةِ الَّتِي أمر الشَّارعُ ◙ بإخراجِ ذواتِ الخُدُورِ وَالحُيَّضِ مِن النِّساءِ إليها لِمَا فِي شُهودِها مِن الخيرِ وبَرَكَةِ دعوةِ المسلمين. وأمَّا حَدِيْثُ حُذَيفةَ فإنَّه أسقطَ الدِّيةَ عَن قاتلي أبيه وَعذَرَهم بالجهالةِ لأنَّ الدِّيَةَ كَانَت عليهم بنصِّ القُرآن، وبقيتِ الكَفَّارَةُ عَليهم فيما بينهم وَبين ربِّهم ╡.
          وَقد يُدخِل البُخَاريُّ نصوصَ الأحاديثِ المختلفةِ الألفاظِ لاختلافِ النَّاسِ فيها، وينشُرُها لأهلِ النَّظَرِ والفقه، ولِيستنبِطَ كلُّ واحدٍ منهم مذهبَه، كحديثِ جابرٍ فِي بيعِ الجَمَلِ فِيهِ لفظُ اشتراطِ ظهرهِ ولفظةُ فَقَارِ ظهره، والإفقارُ تَفَضُّلٌ والاشتراطُ كِرَاءٌ، وَكذلك أدخل البُخَاريُّ فِي هَذَا البابِ أحاديثَ فِي ظاهرِها مَا يتعارضُ لِيَنْظُرَهُ النَّاظِرُ ويتدبَّرَ المستبحِرُ. وإنَّما يَصِحُّ مَعنى الحَدِيْثِ فِي نِسيانِ اليمينِ إِذَا فاتَ بالموتِ، فحينئذٍ يمكن أَنْ يُعذَرَ بالنِّسيان، ويُرجَى له تجاوزُ اللهِ وعفوُه، وأمَّا متى ذَكَرَهُ فالكَفَّارَةُ لازمةٌ.