التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا تحلفوا بآبائكم

          ░4▒ بَابٌ لا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ
          ذَكَرَ فِيْهِ أحاديثَ:
          6646- أحدُها: حَدِيْثُ مالكِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻ أَنَّه صلعم أَدْرَكَ عُمَرَ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ).
          6647- وحَدِيْثَ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: سَمِعْتُ عُمَرَ ☺ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ الله صلعم: (إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ)، قَالَ عُمَرُ ☺: فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا.
          قَالَ مُجَاهِدٌ: أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ: يَأْثُرُ عِلْمًا. تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ☻: سَمِعَ النَّبِيُّ صلعم عُمَرَ.
          الشَّرح: (إسحاقُ) هَذَا هُوَ ابنُ يَحيى الكَلْبيُّ الحِمْصِيُّ، استَشْهدَ به فِي غيرِ موضعٍ.
          ومتابعةُ عُقَيلٍ رواها مُسلمٌ عن عبدِ الملكِ بن شُعَيبِ بن اللَّيث: حدَّثني أَبِي عن جدِّي عَنْهُ. ومتابعةُ الزُّبَيْدِيِّ رواها النَّسائيُّ عن عَمْرِو بن عُثمانَ عن محمَّد بن حَربٍ عَنْهُ. ومتابعةُ مَعْمَرٍ رواها أبو داودَ عَن أحمدَ بنِ حَنْبلٍ عن عبدِ الرَّزاقِ عَنْهُ. ومتابعةُ سُفْيانَ رواها ابنُ مَاجه عن محمَّد بن أبي عُمَرَ العَدَنيِّ عَنْهُ. والتِّرمذِيُ عَن قُتَيبةَ عَنْهُ وقَالَ: حسَنٌ صحيحٌ.
          ولَمَّا ذَكَرَ يَعْقُوبُ بنُ شَيْبَةَ هَذَا الحَدِيْثَ في «مسندِه» قَالَ: حَدِيْثٌ مَدنيٌّ حَسَنُ الإسناد رواهُ العُمريُّ الكبيرُ عن نافِعٍ عن ابن عُمَرَ عن عُمَرَ بلفظِ: ((إنَّ اللهَ ينهاكُم أَنْ تحلِفُوا بآبائِكم، لِيَحْلِفْ حالفٌ باللهِ أو لِيَصْمُت)) ورواه الزُّهْرِيُّ عن سالمٍ عن أبيه عن عُمَرَ ☺، كما رواه العُمَريُّ، ورواه يحيى بن إسحاقَ عن سالمٍ عن أبيه، ولم يقلْ: عن عُمَرَ، ورواه عُبَيد الله بن عُمَرَ وأيُّوبُ السَّخْتِيَانيُّ ومالكٌ واللَّيثُ وعَبْدُ الله بن دينارٍ، فكلُّهم جعله عَن ابنِ عُمَرَ ☻ أَنَّ رَسُوْلَ الله صلعم أدركَ عُمَرَ وهو يحلِفُ بأبيه، غيرَ أيُّوبَ فإنَّه جعله عن نافِعٍ أَنَّ عُمَرَ، ولم يذكر ابنَ عُمَرَ فِي حديثه.
          وقد رُوِي أَيضًا هَذَا الحَدِيْثُ عن ابنِ عبَّاسٍ عن عُمَرَ أنَّه ◙، بلفظِ: بَيْنَا أنا فِي ركْبٍ أسيرُ فِي غَزَاةٍ مع رَسُوْلِ الله صلعم، فقلتُ: لا وأبي، فهتفَ بي رجلٌ مِن خلفي: ((لا تحلفُوا بآبائِكم)) فالتفتُّ فإِذَا هُوَ رَسُوْلُ الله صلعم.
          ولابنِ أبي شَيْبةَ مِن طريقِ عِكْرمَةَ، عن عُمَرَ: فالتفتُّ فإِذَا رَسُوْلُ الله صلعم فقال: ((لو أَنَّ أحدَكم حَلَفَ بالمسيحِ _والمسيحُ خيرٌ مِن آبائِكم_ لهَلَكَ)) وفي روايةِ سعْدِ بن عُبَيدةَ أنَّها شِرْكٌ. ولابْنِ المنذرِ: ((ولا بأمَّهاتِكم ولا بالأوثانِ، ولا تحلفوا باللهِ إِلَّا وأنتم صادقون)).
          ولابنِ أبي عاصمٍ فِي كِتابِ «الأيمان والنُّذور» مِن حَدِيْثِ ابنِ عُمَرَ ☻: ((مَن حلفَ بغيرِ الله فقد أشركَ وكَفَر)) وفي حَدِيْثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ يرفعُهُ: ((لا تحلفوا بآبائِكم ولا بأمَّهاتِكم، ولا بالأنْدادِ، ولا تحلفوا إِلَّا بالله وأنتم صادقون)) وفي حَدِيْث بُريدَةَ يرفعُه: / ((ليس منَّا مَن حَلَفَ بالأمَانة)) وفي كتابه أنَّه ◙ قَالَ: ((مَن حَلَف فليحلفْ بربِّ الكعبة)).
          فَصْلٌ: فِيْهِ أنَّه لا ينبغي اليمينُ إِلَّا باللهِ تَعَالَى، وأنَّ حُكمَ المخلوقات كلِّها فِي حُكمِ الحَلِف بالآباء، وأمَّا مَا فِي القُرآن مِن الإقسام بالمخلوقات نحو:{وَالطُّورِ} [الطور:1] {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فلِلَّهِ تعالى أن يُقسِمَ بما شاء مِن خَلْقِه، أو التَّقديرُ: وَرَبِّ الطُّورِ وربِّ النَّجمِ، ثمَّ بيَّنَ مُرادَ اللهِ مِن عِبادِه مِن أنَّه لا يجوز الحَلِفُ بغيرِه. وقد ذَكَرَه ابنُ أبي شَيبَةَ عن ميمونَ بنِ مِهران أيضًا.
          قال ابنُ عبد البَرِّ: لا ينبغي لأحد أن يحلفَ بغيرِ الله تَعَالَى لا بهذه الأقسامِ ولا بغيرِها، لإجماعِ العلماءِ أنَّ مَن وجبتْ له يمينٌ على آخَرَ فِي حقٍّ قِبَلَهُ أَنَّه لا يحلِفُ له إِلَّا بالله، ولو حلفَ له بالنَّجمِ والسَّماء وقال: نويتُ ربَّ ذلك، لم يكن عندهم يمينًا.
          وعن مالكٍ أنَّه بلغه أَنَّ ابنَ عبَّاسٍ كَانَ يقول: لأَنْ أحلِفَ بالله فآثمَ أحبُّ إليَّ مِن أَنْ أُضاهي. والمضاهاةُ أَنْ يحلِفَ بغيرِ الله تعظيمًا للمحلوفِ به، أو يُرِي السَّامِعَ أنَّه حلفَ بالله، وقيل: معنى المضاهاةِ أَنْ يَكْفُر فِي يمينِه. ورُوِيَ عن ابنِ عُمَرَ وابنِ مسعودٍ ☺، قَالَ: لَأنْ أحلفَ بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ مِن أَنْ أحلِفَ بغيرِه صادقًا.
          ورَوَى ابنُ جُرَيجٍ عن ابنِ أبي مُلَيْكةَ أنَّه سمع ابنَ الزُّبير يقول: سَمِعَني عُمَرُ أحْلِفُ بالكعبةِ فنهاني وقَالَ: لو تقدَّمَتْ إليكَ لعاقبْتُكَ.
          وقال قَتَادَةُ: يُكرَه الحَلِفُ بالمصحفِ وبالعِتق والطَّلاقِ. قال أبو عُمَرَ: والحَلِفُ بالطَّلاقِ والعِتْقِ ليس بيمينٍ عند أَهْلِ التَّحصيلِ والنَّظَرِ، وإنَّما هُوَ طلاقٌ بصفةٍ وعِتقٌ بصفةٍ وكلامٌ خرَج عَلَى الاتِّساع والمجازة والتَّقريب، وَلا يمين فِي الحقيقة إِلَّا بالله. ونقل محمَّدُ بن نصرٍ المَروزيُّ فِي كتابِه «اختلاف العلماء» إجماعَ الأُمَّةِ عَلَى أَنَّ الطَّلاقَ لا كفَّارةَ فِيْهِ.
          وأجاز ابنُ عُمَرَ والحسنُ وإبْراهيمُ التَّيْمِيُّ الحَلِفَ بايْمِ الله، وَكره إبراهيمُ لَعَمْرُكَ وقال: هي لغوٌ، وكانت يمينُ عُثمانَ بنِ أبي العاصي لَعَمْرِي، كما ذكره ابنُ أبي شَيْبةَ، وكان أبو السِّوار العَدَويُّ يقول: إِذَا سمعتموني أقول: لاَهَا اللهِ إِذًا، ولَعَمْرِي، فذكِّروني. وقال الحسن: إِذَا قال الرَّجُلُ: لَعَمْري لا أفعل كذا وكذا وحَنِثَ فعليه الكفَّارةُ. ونقل ابنُ المنذرِ عن مالكٍ والشَّافعيِّ والأوزاعِيِّ وأبي عُبَيدٍ أنَّها ليستْ بيمينٍ. قال الشَّافعيُّ، وأبو عُبَيدٍ: إِلَّا إِذَا أرادَها. وعن الأَوْزَاعِيِّ وأبي ثورٍ فِي لَعَمْرُ اللهِ: يمينٌ وفيها الكفَّارَةُ.
          وقال أَهْلُ الظَّاهر: مَن حَلَف بغيرِ الله وهو عالمٌ بالنَّهي عَصَى، ولا كفَّارةَ عندهم فِي غيرِ اليمين بالله تَعَالَى، والجمهورُ سَلفًا وخَلفًا عَلَى إيجابِها فِي وُجوهٍ كثيرةٍ مِن الأَيمان، وهمْ مع ذَلِكَ يستحبُّون اليمينَ بالله، ويكرهون اليمينَ بغيرِه، هَذَا عُمَرُ وابنُه يوجبان كفَّارةَ اليمين فيمَن حَلَف بغيرِ الله، وَهما رَوَيا قَوْلُهُ: (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ) فدلَّ أنَّه عَلَى الاختيارِ لَا عَلَى الإلزامِ والإيجابِ.
          ورَوَى يَزِيدُ بن زُرَيعٍ عن حَبِيبٍ المعلِّم عن عَمْرِو بن شُعَيبٍ عن سعيدِ بن المسيِّب أَنَّ أخوينِ مِن الأنصار كَانَ بينهما ميراثٌ، فسأل أحدُهما صاحبَه القِسمةَ، فقال: إنْ عدتَ تسألُني القِسمةَ لم أكلِّمْك أبدًا، ومالي فِي رِتَاجِ الكعبةِ، فقال عُمَرُ بن الخطَّابِ: إنَّ الكعبةَ لَغَنِيَّةٌ عن مالكَ، كفِّرْ عن يمينِك وكلِّم أخاكَ. وهو قولُ ابنهِ وابنِ عبَّاسٍ وزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ وسَعِيدِ بنِ المسيِّب وعَائِشَةَ وحَفْصَةَ ♦، وجماعةٍ مِن علماء التَّابعين بالمدينةِ والكوفة.
          فَصْلٌ: واختلفوا فيما عَلَى مَن حَلَفَ بالقرآنِ وَحنِثَ، فقال ابنُ المنذر: فَكانَ ابنُ مسعودٍ يقول: عليه بكلِّ آيةٍ يمينٌ. وَرَوَى ابْنُ أبي عاصمٍ بإسنادٍ فِيهِ ابنُ عبَّاسٍ أَنَّ ثابتَ بنَ الضَّحَّاكِ قَالَ: قالَ رَسُوْلُ الله صلعم: ((مَن حَلَفَ بِسُورةٍ مِن كتابِ الله فعليه بكلِّ آيةٍ يمينٌ)) وروى ابنُ أبي شَيْبةَ مِن حَدِيْثِ ليثٍ عن مُجَاهِدٍ قال رَسُوْل الله صلعم فَذَكَرَهُ، وقال: ((فعليه بكلِّ آيةٍ منها يمينُ صَبْرٍ، فمَن شاء بَرَّ، ومَن شاء فَجَرَ)) قال ليثٌ: وقال مُجَاهِدٌ: مَن حلَفَ بسورةٍ مِن القُرآنِ فعليه بكلِّ آيةٍ منها يمينٌ.
          قال ابنُ حزمٍ: ورواه حجَّاجُ بن مِنْهالٍ عن أبي الأشْهبِ عن الحَسَنِ عن رَسُوْلِ الله صلعم، مثل حَدِيْثِ مُجَاهِدٍ. قَالَ: وهو قول الحَسَنِ. قال ابنُ المنذِرِ: وقال أبو عُبَيدٍ: تكونُ يمينًا واحدةً. وبه قال الحسن. قال أحمَدُ: ولا أعلم شيئًا يدفعُهُ. وقال النُّعمان: لَا كفَّارةَ عليه. وَعندنا إنْ قَصَدَ كلامَ الله أو أطلَقَ فيمينٌ. وَكان قَتَادَةُ يحلف بالمُصحف. قال أحمدُ وإسحاقُ: ولا يُكره ذَلِكَ. وحكى ابنُ هُبَيرةَ عن أحمدَ روايتين إحداهما: يلزمُهُ إذا حَنِثَ كفَّارةٌ واحدةٌ، والأخرى: تلزمُه لكلِّ آيةٍ كفَّارةٌ.
          فَصْلٌ: تنعقدُ عندنا اليمينُ بالرَّحمنِ، وقال أبو يُوسُفَ: إنْ أراد به اللهَ انْعقَدَ، وإنْ أرَاد بِسورةِ الرَّحمنِ فلا.
          فَصْلٌ: اختُلِفَ فِي الرَّجُلِ يقول: أقسمتُ باللهِ أو أقسمتُ، ولم يقل: بالله، فرُوِّينا _كما قال ابنُ المنذرُ_ عن ابنِ عبَّاسٍ وابنِ عُمَرَ أنَّهما قالا: القَسَمُ يمينٌ وإنْ لَمْ يُرِدْ به اليمين، وبه قال النَّخَعيُّ والثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي، وفي قولِ الثَّوريِّ وأصحابِ الرَّأي: أقسمتُ بالله وأقسمتُ يمينٌ، وبه قال عُبَيدُ الله بنُ الحَسَنِ.
          وقالتْ طائفةٌ: إذا قال: أقسمتُ ولم يقُلْ: بالله فلا يمينَ عليه، هذا قولُ عطاءٍ والحسنِ وابنِ شهابٍ وقتادةَ وأبي عُبيدٍ، وقالت طائفةٌ: إن أرادَ بقولِهِ: أقسمتُ أَي بالله، فهي يمينٌ، وإِلَّا فلا شيء عليه، هَذَا قولُ مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ، وقال ابنُ المنذرِ: وبه أقول. وعندَ ابنِ أبي شَيْبةَ، عن مُجَاهدٍ: القَسَمُ يمينٌ. وقال ابنُ مسعودٍ فِي رجلٍ أقسمَ أَلَّا يشربَ مِن لبنِ شاةِ / امرأتِهِ، فقال: أطيب لقلبه أَنْ يكفِّر يمينَه. وهو قولُ أبي العالِيةِ والحَكَمِ وعَلْقَمَةَ، وقد عقد له البُخَاريُّ بابًا كما سيأتي.
          فَصْلٌ: قال الشَّافعيُّ وأبو ثوْرٍ: وإِذَا قَالَ: أَعْزِمُ بالله، فليستْ بيمينٍ إِلَّا أَنْ يريدَ يمينًا، وَكذا إِذَا قَالَ: أشهدُ بِالله، إنْ نَوى اليمينَ فهي يمينٌ، وإنْ لَمْ يَنْوِ شيئًا فَلا شيءَ عليه. وَقال أصحابُ الرَّأي وأبو ثورٍ: هِي يمينٌ. وقال أصحابُ الرَّأيِ: إِذَا قَالَ: أشهدُ، فهي يمينٌ. وقال أبو عُبَيدٍ: ليستْ بيمينٍ، وقال الأوزاعِيُّ ورَبِيعةُ: إِذَا قَالَ: أشهدُ لا أفعل كَذا، ثُمَّ فعل فَهِيَ يمينٌ، وقد عقدَ له البُخَاريُّ بابًا يأتي.
          فَصْلٌ: فإنْ قَالَ: حلفتُ، ولم يحلِفْ فقال الحسَنُ والنَّخَعيُّ: لزِمَتْه يمينٌ، ورَوَى ابنُ أبي شَيْبةَ عن النَّخَعيِّ: فقد كَذَبَ، وكذا قال حمَّادُ بنُ أبي سُليمانَ: هي كِذْبَةٌ، وقال أبو ثورٍ: باطلٌ، وقال أصحابُ الرَّأيِ: هي يمينٌ.
          فَصْلٌ: لو قَالَ: إنْ فعلتُ هَذَا فهو يَهُوديٌّ أو نَصْرانيٌّ أو مَجُوسِيٌّ، فقال مالكٌ والشَّافعيُّ وأبو عُبَيدٍ وأبو ثورٍ: يستغفرُ اللهَ، وقال طَاوسٌ والحسَنُ والشَّعبيُّ والنَّخَعيُّ والثَّوريُّ والأوزاعِيُّ وأصحابُ الرَّأي: عليه كفَّارةُ يمينٍ، وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ إِذَا أراد اليمينَ.
          فَصْلٌ: اختُلِفَ فِي الرَّجُلِ يدعو عَلَى نفْسِه بالخِزْيِ والهَلاكِ أو قَطْعِ اليدِ إنْ فعلَ كذا، فقال عَطَاءٌ: لا شيء عليه، وهو قولُ الثَّوريِّ وأبي عُبَيدٍ وأصحابِ الرَّأيِ، وقال طَاوسٌ: عليه كفَّارةُ يمينٍ، وبه قال اللَّيثُ، وقال الأوزاعِيُّ: إِذَا قَالَ: عليه لعنةُ الله إنْ لَمْ يفعلْ كَذا فلم يفعلْهُ فعليه كفَّارةُ يمينٍ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ هُبَيرةَ فِي «كتابِه»: أجمعوا عَلَى أَنَّ اليمينَ بالله منعقدةٌ بجميعِ أسمائِه الحسنى كالرَّحمنِ والرَّحيمِ والحيِّ وغيرِها، وبجميعِ صفاتِ ذاتِه كعِزَّةِ اللهِ وَجلالِه، إِلَّا أبا حَنِيفةَ فإنَّه استثنى عِلْمَ اللهِ فلمْ يَرَهُ يمينًا استحسانًا، فإنْ قَالَ: وحقِّ الله، فَقالوا: يكونُ يمينًا، وقال أبو حَنيفةَ: لَا. واختلفوا إِذَا حلفَ بالنَّبيِّ صلعم، فقال أحمدُ: ينعقِدُ، وَخالفهُ الباقون.
          واختُلِفَ فِي يمينِ الكافرِ، فقال أبو حَنيفة وَمالكٌ: لا تنعقدُ سواءٌ حَنِثَ فِي ظِلِّ كُفْرِه أو بعد إسلامِه ولا تصحُّ منه كفَّارةٌ، وقال أحمدُ: تنعقِدُ يمينُه وتلزمُه الكَفَّارَةُ بالحِنْثِ فيها فِي الموضعينِ. قلتُ: ومذهبُ أبي حنيفَةَ: إِذَا حَلَفَ بِسَخَطِ اللهِ وغضبِه ورَحمتِه، وإنْ فعلتُهُ فَعَلَيَّ غضبُه وسَخَطُه، أو أنا زانٍ أو سارقٌ أو آكلُ ربا أو شاربُ خمرٍ، فلا تَنْعَقِدُ ولا كفَّارةَ.
          وعبارةُ ابنِ حزمٍ فِي «مُحلَّاه»: اليمينُ لا تكون إِلَّا بالله أو باسمٍ مِن أسمائه أو بما يُخبَرُ به عَنْهُ ولا يُرادُ به غيرُه مثل مُقلِّبِ القلوبِ ووارثِ الأرضِ ومَنْ عليها، ويكون ذلك بجميعِ اللُّغاتِ، أو بِعِلْمِ الله أو قدرتِه أو عِزَّتِه أو قوَّتِه أو جلالِه، ومَن حلف بغيرِ ذَلِكَ فلا كفَّارةَ عليه وهو عاصٍ وعليه التَّوبةُ مِن ذَلِكَ والاستغفارُ.
          وأمَّا اليمينُ بِعَظَمَتِه وإرادتِه وكَرَمِه وحِلْمِه وحِكْمَتِه وسائرِ مَا لم يأتِ به نصٌّ فليس شيءٌ مِن ذَلِكَ يمينًا لأنَّه لم يأتِ به نصٌّ فلا يجوز القولُ بها.
          وأمَّا الحَلِفُ بالأمانةِ وبعهدِ اللهِ وميثاقِه ومَا أخذَ يعقُوبُ عَلَى بنيهِ وبِأشدِّ مَا أخذ أحدٌ عَلَى أحدٍ وحقِّ النَّبِيِّ والمصْحفِ والإسلامِ والكعبةِ ولَعَمْرِي ولَعَمْرُكَ وأقسمتُ وأُقْسِمُ وأَحلِفُ وحلفْتُ وأشهدُ وعَلَيَّ يمينٌ أو عليَّ ألْفُ يمينٍ أو جميعُ الأَيمانِ تلزمُنِي، فكلُّ هَذَا ليس بيمينٍ، واليمينُ بها معصيةٌ وليس فيها إِلَّا التَّوبةُ والاستغفارُ.
          ومَن حَلَفَ بالقرآنِ أو بكلامِ الله، فإنْ نَوَى في نفْسِه المصْحفَ أو الصَّوتَ المسموعَ أو المحفوظَ فِي الصُّدورِ فَليس يمينًا، وإنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ بل نواه عَلَى الإطلاقِ فهي يمينٌ وعليه كفَّارةٌ إنْ حَنِثَ.
          فَصْلٌ: قال المهلَّبُ: كانت العربُ في الجاهليَّةِ تحلِفُ بآبائِها وآلهتِها، فأراد الله أنْ ينسخَ مِن قلوبِها وألسِنتِها ذِكْرَ كلِّ شيءٍ سواه ويُبقِيَ ذِكْرَهُ تعالى لأنَّه الحقُّ المعبود، فالسُّنَّة اليمينُ بالله كما رواه أبو موسى وغيرُه عَن رَسُوْلِ الله صلعم، والحَلِفُ بالمخلوقاتِ في حُكْمِ الحَلِفِ بالآباءِ لا يجوزُ عند الفقهاءِ شيءٌ مِن ذلك.
          قال الطَّبريُّ: في حديثِ عُمَرَ ☺ أنَّ الأَيمان لا تصلحُ بغيرِ الله تعالى كائنًا مَا كان، وأنَّ مَن قال: وربِّ الكعبةِ أو جبريلَ أو آدمَ وحَوَّاء، وقال: وَعذابِ الله وثوابِه، أنَّه قد قال مِن القولِ هُجْرًا وقَدِمَ على ما نَهَى عنه الشَّارع، ولَزِمَهُ الاستغفارُ مِن قولِه ذلك دون الكَفَّارَةِ لِثُبُوتِ الحُجَّةِ أنَّه لَا كفَّارةَ عَلى الحالف بذلك.
          وقال الشَّعبيُّ: الخالقُ يُقسِمُ بما شاء مِن خَلْقِه، والمخلوقُ لا ينبغي له أنْ يُقسِمَ إلَّا بالخالقِ، والَّذي نفْسِي بيدِه لأنْ أُقْسِمَ باللهِ فأَحْنِثَ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أُقسِمَ بغيرِه فَأَبَرَّ. وذكر ابنُ القصَّارِ مِثْلَه عن ابنِ عُمَرَ، وقد أسلفناه. وقال قُطرب: إنَّما أَقْسَمَ اللهُ بهذه الأشياءِ لِيُعْجِبَ منها المخلوقينَ ويُعَرِّفَهم بقُدْرَتِه فيها لِعِظَمِ شأنِها عندهم ولِدِلالتِها على خالقِها.
          وقد أجمَع العلماء عَلَى أَنَّ مَن وجبتْ له يمينٌ عَلَى رجلٍ فِي حقٍّ عليه، أنَّه لا يحلِفُ له إلَّا بالله، فلو حلف له بغيرِه وقال: نويتُ ربَّ ذلك لم يكن عندَهم يمينًا.
          وقال ابنُ المنذرِ: مَن حلَفَ بغيرِ الله وهو عالمٌ بالنَّهيِ فهو عاصٍ. قال: واختلف أهلُ العلم في معنى نهيِه عن الحَلِف بغيرِ اللهِ، أهو عامٌّ في جميعِ الأَيمانِ كلِّها أو هو خاصٌّ في بعضِها؟ فقالت طائفةٌ: الأيمانُ المنهيُّ عنها هي الأيمانُ الَّتِي كان أهلُ الجاهليَّةِ يحلفون بها تعظيمًا منهم لغيرِ الله، كاليمينِ باللَّاتِ والعُزَّى والآباءِ والكعبةِ والمسيح وبِمِلَلِ الشِّرْكِ، فهذه المنهيُّ عنها ولا كفَّارة فيها.
          وأمَّا ما كان مِن الأَيمانِ فيما يؤولُ الأمرُ فيه إلى تعظيمِ الله فهي غيرُ تلْكَ، وذلك كقولِه: وحقِّ النَّبيِّ والإسلامِ وكاليمينِ بالحجِّ، والعُمرةِ والصَّدقةِ / والعِتْقِ وشبهه، فكلُّ ذلك مِن حقوقِ الله ومِن تعظيمه. قال أبو عُبَيدٍ: إنَّما ألفاظُ الأَيمان مَا كان أصلُه يُرادُ به تعظيمُ الله والتَّقرُّبُ إليه، ومِن القُرْبَةِ إليه اليمينُ بِالعِتقِ والمشيِ والهَدْيِ والصَّدقةِ.
          قال ابنُ المنذر: وقد مالَ إلى هذا القولِ غيرُ واحدٍ ممَّن لقيناهُ، واستدلَّ بعضُهم بما رُوِيَ عن أصحابِ رَسُولِ الله صلعم مِن إيجابِهم على الحالفِ بالعِتقِ وصَدقةِ المال والهَدْيِ مَا أوجبوه مع روايتِهم هذه الأخبارَ الَّتِي فِيها التَّغليظُ في اليمينِ بغيرِ الله تعالى، أنَّ معنى النَّهيِ بذلك غيرُ عامٍّ إذْ لو كان عامًّا ما أوجبُوا فيه مِن الكفَّارةِ ما أوجبوا، ولنَهوا عَن ذلك.
          فَصْلٌ: قولُه: (ذَاكِرًا) يعني متكلِّمًا به، كقولكَ: ذكرتُ لفلانٍ حديثًا حسنًا، وليسَ هَذَا مِن الذِّكْرِ الَّذي هو ضدُّ النِّسيانِ، (وَلاَ آثِرًا) يقولُ: وَلا مُخبِرًا عَن غيري أنَّه حلفَ. وقال الطَّبريُّ: وَمِنهُ حَدِيْثٌ مأثورٌ عَن فلانٍ، أَي تحدَّث به عنه، و{أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4] بقيَّةٌ. وقيل: الخطُّ الَّذِي يخطُّه بعضُ النَّاسِ فِي الأَرضِ، فيُخبِرونَ ببعضِ ما يُسأَلونَ عَنْهُ.
          قلتُ: فهو مِن قولِهم: أثَرْتُ الحَدِيْثَ إِذَا حدَّثْتَ به عَن غيرِكَ. يقولُ: لم يأتِ مِن قِبَلِ نفْسِي ولا حدَّثْتُ به عَن غيري أنَّه حَلَفَ به، يقول: لا أقولُ إنَّ فلانًا قالَ وإنِّي لا أفعلُ، كَذا ولا كَذا. وقال الدَّاوديُّ: يريدُ بقولِه: (ذَاكِرًا وَلاَ آثِرًا) أَي مَا حلفتُ بها ولا ذَكَرْتُ حَلِفَ غيري بها، كقولِه: قال فلانٌ وحقِّ أبي.
          فَصْلٌ: ونهيُه عن الحَلِفِ بالآباءِ أَي مَن حَلَف بها تعظيمًا لأبيه، وقد قال الصِّدِّيقُ: وأبيكَ مَا لَيْلُكَ بِلَيْلِ سارقٍ.
          فَصْلٌ: قولُه فِي حَدِيْثِ أبي قِلابَةَ والقاسِمِ التَّميميِّ _وهو ابنُ عاصمٍ الكَلبيُّ_ عن زَهْدَمٍ: (هُوَ رَجُلٌ أَحْمَرُ) أَي أشقَرُ، تقولُ: رَجُلٌ أحمرُ والجمعُ الأَحَامِرُ، وإنْ أردتَ المصبوغ بالحُمْرةِ قُلْتَ: أحمرُ وحُمْرٌ.
          والدّجَاجُ مثلَّثُ الدَّالِ كما سَلَفَ، والواحدُ دَجَاجةٌ، الذَّكَرُ والأُنثى لأنَّ الهاءَ إِنَّمَا دَخَلَتْ عَلَى أنَّه واحدٌ مِن جنسِه مِثْلُ عمامة.
          و(قَذِرْتُهُ) بكسرِ الذَّالِ، كرِهْتُه، وَكذلك: تقذَّرتُه واسْتَقْذَرْتُه.
          قَوْلُهُ: (وَأُتِيَ بِنَهْبِ إِبِلٍ) أَي بغنيمةٍ. قَالَ الجَوهَريُّ: النَّهْبُ الغنيمَةُ، وقال ابنُ فارسٍ: النَّهْبُ الغنيمة ينتَهِبُها مَن شاء.