التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم

          ░29▒ بَابٌ إِذَا نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ
          6697- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ ابْنِ عُمَرَ ☻ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ).
          وقدْ سَلَفَ قَبْلُ معنى قَوْلِهِ: (فِي الجَاهِلِيَّةِ) فِي زَمَنِنَا وَأنا مُسلمٌ، وَهو خلافُ مَا فهِمَهُ البُخَاريُّ وبوَّبَ عليه.
          وقال الشَّيخ أبو الحسن القابِسيُّ: لم يأمرْهُ الشَّارعُ عَلَى جهةِ الإيجابِ إِنَّمَا هُو عَلَى جهةِ الرَّأي، وقيل: أراد ◙ أَنْ يُعلِمَهم أَنَّ الوفاءَ بالنَّذْرِ مِن آكدِ الأمورِ فغلَّظَ أَمْرَهُ بأنْ جعلَه لازمًا لعُمَرَ وإنْ كَانَ أصلُ التزامِه في الجاهليَّةِ؛ لأنَّهم كانوا حَديثِي عهدٍ بكفرٍ ليتأكَّدَ عندَهم إيجابُه.
          وقد اختلف العلماء فِي إيجابِ الوَفاءِ عليه إِذَا أسلمَ، والأصحُّ عندنا استحبابُه، وأمَّا ابنُ بطَّالٍ فنقلَ عَن الشَّافعيِّ وأبي ثورٍ إيجابَهُ، وإنْ حَنِث بعد إسلامِه فعليه الكَفَّارَةُ، وَهو قول الطَّبريِّ، قالوا: وَالأمرُ فِيْهِ عَلَى الوجوبِ، وَهو قول المغيرة المَخْزُوميِّ، وإليه ذهب البُخَاريُّ وقاسَ اليمينَ على النَّذْرِ إنْ كان النَّذرُ ممَّا الوفاءُ به طاعةٌ في الإسلامِ لَزِمه الوفاءُ، وإنْ كان النَّذرُ وَاليمينُ ممَّا لا ينبغي الوفاءُ به كيمينِ: لا يُكلِّم إنسانًا، فعليه الكَفَّارَةُ في الإسلامِ. قَالَ: وكذا يقولُ الشَّافعيُّ وأبو ثورٍ فيمن نذرَ معصيةً أنَّ عليه كفَّارة يمينٍ.
          قَالَ: وقال آخَرون: لا يجِبُ عليه شيءٌ مِن ذلك، وَكلُّ مَن حَلَفَ في كُفْرِهِ فَحَنِثَ بعد إسلامِه فلا شيءَ عليه في كلِّ الأَيمان. هذا قولُ مالكٍ والثَّوريِّ والكوفيِّين.
          قال الطَّحاويُّ: والحُجَّة فِي ذَلِكَ قولُه ◙: ((ومَن نَذَرَ أنْ يعصِيَ اللهَ فلا يعصِهْ)) قالوا: لَمَّا كانت النُّذورُ إنَّما تجبُ إِذا كانت ممَّا يُتقرَّبُ بها إلى اللهِ تعالى ولا تجِبُ إذا كانتْ معاصي، وكان الكافر إذا قال: للهِ عَلَيَّ اعتكافٌ أو صيامٌ ثُمَّ فَعَلَ ذلك لم يكن بذلك مُتقرِّبًا إلى الله، فأشبه بذلك قولَه ◙: ((لَا نذرَ في معصيةٍ)) لأنَّ مَا لم يصحَّ أنْ يكون طاعةً لا يلزم الوفاءُ به، وقد يجوز أنْ يكونَ قولُهُ لِعُمَرَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ) ليس على طريقِ الوجوبِ، ولكنْ لَمَّا كان عُمَرُ قد سمحَ في حالِ نَذْرهِ أنْ يفعلَهُ استَحَبَّ له ◙ أنْ يَفِيَ به لأنَّ فِعْلَه الآنَ طَاعةٌ لله، فكان مَا أَمَرَهُ به خلافَ مَا أوجبه هو عَلى نفْسِه لأنَّ الإسلامَ يهدِمُ أَمْرَ الجاهليَّةِ. وَقد سَلَفَ في الاعتكافِ شيءٌ مِن معنى هذا البابِ في بابِ الاعتكافِ ليلًا، وهو قولُ الشَّافعيِّ: إنَّ الصَّومَ ليس شرطًا فِي صحَّةِ الاعتكاف.
          قالَ ابنُ التِّين: والجماعةُ عَلَى خلافِه، وإنَّما أرادَ أَنَّ النَّذْرَ يُوفَى به، فَخَرَجَ عَلَى جهةِ التَّغليظ والتَّأكيدِ للوفاءِ بالنَّذر.
          وقد اختُلِفَ فيمَن نذرَ اعتكافَ ليلةٍ، فقال ابنُ القاسم: يلزمُه يومٌ وليلةٌ، وقال سُحْنونُ: لا يلزمُه شيءٌ، قَالَ: واتَّفقا عَلَى أنَّه إِذَا نذر اعتكافَ يومٍ أنَّه يلزمُه يومٌ وليلةٌ، قلتُ: لا، والأصحُّ عندَنا أنَّه لا يلزمُهُ اللَّيلةُ.