التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من مات وعليه نذر

          ░30▒ بَابُ مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
          وَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ ☻ امْرَأَةً جَعَلَتْ أُمُّهَا عَلَى نَفْسِهَا صَلاةً بِقُبَاءٍ، فَقَالَ: صَلِّي عَنْهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ.
          6698- ثمَّ ساق حَدِيْثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻، أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ اسْتَفْتَى رَسُوْلَ اللهِ صلعم في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ، (فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا)، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ.
          6699- وَحَدِيْثَ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ أَيْضًا أَنَّهُ أَتَى رَجُلٌ رَسُوْلَ اللهِ صلعم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، وَإِنَّهَا مَاتَتْ؟ فَقَالَ: (لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاقْضِ اللهَ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ).
          الشَّرح: تضمَّنتْ أحاديثُ البابِ وآثارُه جوازَ النِّيابةِ فِي الصَّلاةِ والحجِّ وغيرِهما إِذَا ماتَ مَن يُنابُ عَنْهُ، وَلا شكَّ فِي دخولِ النِّيابة فِي الأفعالِ المتضمِّنةِ المالَ فقط كالصَّدقةِ، وَكذا عندَنا فِي الأفعالِ البدنيَّةِ كالحجِّ، ومَشهورُ مذهبِ مالكٍ أَنَّ النِّيابةَ فِيْهِ مكروهةٌ، وتُنَفَّذُ إنْ أَوصَى به.
          ووقعَ فِي «كتابِ محمَّدٍ» فِي امرأةٍ أوصتْ أَنْ يُحَجَّ عنها إنْ حَمَلَ ذَلِكَ ثُلُثُها، فإنْ لَمْ يَحْمِلْ جُعِلَ فِي رقبةٍ يَحمِلُ ذَلِكَ ثلثها، قَالَ: يُعتَقُ عنها وَلا يُحَجُّ، فلمْ يُجِزْ ذَلِكَ وَلو كَانَ ذَلِكَ بوصيَّةٍ.
          قال مالكٌ: ولا ينبغي أَنْ يَحُجَّ أحدٌ عَن حيٍّ زَمِنٍ أو غيرِهِ، وَلا أَنْ يتطوَّع عَن ميِّتٍ صَرُورَةً كَانَ المحجوجُ عَنْهُ أمْ لا، ولْيتطوَّع عَنْهُ بغيرِ ذَلِكَ أحبُّ إليَّ. قَالَ: وَهذه دارُ الهِجْرة لم يبلغْنا أَنَّ أحدًا منذ زمنِ رَسُوْلِ الله صلعم حَجَّ عن أَحَدٍ ولا أمَرَ بِذَلِكَ وَلا أذِنَ فِيْهِ.
          قلتُ: صحَّ ذَلِكَ عن سيِّدِ البَشَرِ، ففي السُّنن الأربعةِ مِن حَدِيْثِ أبي رَزِينٍ العُقَيلِيِّ لَقِيطِ بنِ عامرٍ أنَّه أتى النَّبِيَّ صلعم، فقال: يا رَسُوْلَ الله، إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ لا يستطيعُ الحجَّ وَلا العُمرةَ وَلا الظَّعْنَ، فقال: ((حُجَّ عن أبيكَ واعتمرْ)) قال التِّرمذِيُّ: هَذَا حَدِيْثٌ حسنٌ صحيحٌ، وأخرجه / ابنُ حِبَّانَ فِي «صحيحه» والحاكمُ فِي «مستدرَكِه» وقَالَ: صحيحٌ عَلَى شرْطِ الشَّيخينِ، وقال البَيْهَقِيُّ فِي «خلافيَّاته»: رُوَاتُه ثقاتٌ. وقال الإمام أحمدُ: لَا أعلم فِي إيجاب العُمرة حديثًا أجودَ منه ولا أصحَّ منه.
          وحَدِيْثُ ابنِ عبَّاسٍ ☻ فِي البابِ، وَحديثُه أَيضًا السَّالفُ فِي الحجِّ: أَنَّ امرأة مِن خَثْعَمَ قالت: يا رَسُوْل الله إنَّ فريضةَ اللهِ عَلَى عبادِه فِي الحجِّ أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيعُ أَنْ يثبُتَ عَلَى الرَّاحلةِ أفأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: ((نعم)) وَذَلِكَ فِي حَجَّة الوداع.
          قال ابنُ وَهْبٍ وأبو مُصعبٍ: لا يَحُجُّ أحدٌ عن أَحَدٍ إِلَّا ابنٌ عَن أبيهِ رَضِيَ أم لا، شيخًا كَاَنَ أو غيرَه. وقال أشهبُ: إنْ حجَّ عَن الشَّيخِ الكبيرِ أجزأَهُ. وَقيل لمالكٍ: أَمَرَنِي رَجلٌ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ وَهو حيٌّ، قَالَ: افعلْ مَا أمركَ به، والحجُّ عَن الميِّتِ سَلَفَ مستوفًى في كتاب الحجِّ.
          فَصْلٌ: وأمَّا الفِعْلُ الَّذي يتضمَّن فِعْلَ النَّذرِ خاصَّةً كالصَّلاةِ والصَّومِ فالمشهور مِن مذاهبِ الفقهاء أنَّه لا يُفعَلُ، وقال محمَّد بنُ عبد الحَكَم: يُصام عَنْهُ، وَهُوَ القديم للشَّافعيِّ وصحَّت به الأحاديثُ فهو المختار، وقاله أحمدُ وإسحاقُ وأبو ثَورٍ وَأهلُ الظَّاهر أيضًا، وقالوا: إنْ أحبَّ أنْ يكترِيَ عَنْهُ مَن يصومُ عَنْهُ جاز، وَنقل ابنُ بطَّالٍ إجماعَ الفقهاء أنَّه لا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ فرضًا ولا سنَّةً، لا عَن حيٍّ ولا عَن ميِّتٍ. وليس كما ذَكَرَ بل فِيْهِ الخلاف.
          قال المهلَّب: وَلو جَاز أنْ يصلِّي أحدٌ عَن أحدٍ لجاز ذَلِكَ في جميع مَا يلزمُ الأبدانَ مِن الشَّرائع، ولجاز أنْ يُؤمِن إنسانٌ عَن آخرَ، وما كَاَنَ أحدٌ أحقَّ بِذَلِكَ مِن الشَّارعِ أنْ يؤمِنَ عَن أبويهِ وَعن عمِّه أبي طالبٍ، ولَمَا نُهِيَ عَن الاستغفارِ لمن استغفرَ له ولبَطَلَ معنى قولِه تَعَالَى: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام:164] وإنَّما أرادَ _واللهُ أعلم_ كَسْبَ الفرائضِ، وأمَّا النَّوافلُ فقد أَمَرَ ◙ الأحياءَ بقضائِها عَن الأمواتِ وَغيرِهم تبرُّعًا بِذَلِكَ.
          فَصْلٌ: واختلفَ العلماءُ في وجوبِ قضاءِ النَّذْرِ عَن الميِّتِ على ورثتِه، فقال أهلُ الظَّاهر: يقضيه عنه وَلِيُّه، وَهو واجبٌ عليه صومًا كَان أو مَالًا، وقال جمهور العُلماء: ليس ذلك عَلَى الوارث واجبًا، وإنْ فَعَلَ فقد أحسنَ إنْ كان صدقةً أو عِتقًا.
          واختلفوا في الصَّوم وفيما إذا أوصى به، فقالت طائفةٌ: هُو في ثُلُثِهِ وهُو قولُ مالكٍ، وقال آخرون: كلُّ واجبٍ إذا أوصى به فهو مِن رأسِ مالِه، وأمَّا أثرُ ابنِ عُمَرَ ☻ بالصَّلاةِ بقُباءٍ _وابنِ عبَّاسٍ نحوه_ فهو على وجه الرَّأي لا عَلى وجه الإلزام. وقد رُوي عن ابن عُمَرَ ☻ وابنِ عبَّاسٍ خلافُ ما حَكَى البُخاريُّ عنهما: ذكر مالكٌ في «الموطَّأ» أنَّه بَلَغَهُ أنَّ عبدَ الله بن عُمَرَ كان يقول: لا يُصَلِّي أحدٌ عَن أحدٍ ولا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ، ورَوَىَ أيُّوبُ بن مُوسَى عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: لا يُصَلِّي أحدٌ عن أحدٍ ولا يصومُ أحدٌ عن أحدٍ.
          وقولُه: (فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ) أي سُنَّةً في الحضِّ عَلَى التَّبرُّرِ عن الميِّتِ. قال ابنُ القابِسيِّ: وَهَذَا يدلُّ أنَّ الموتى ينفعُهمُ العملُ الصَّالحُ وإنْ كَاَنَ مِن غَيرِ أموالِهم، وَقد قال تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] لكنَّ فِعْلَ هذا سنَّةٌ لمن فَعَلَهُ.
          فَصْلٌ: اختلف العلماءُ في النَّذْرِ الَّذي كان على أمِّ سعدِ بنِ عُبَادةَ:
          فقال قومٌ: كان صيامًا، واستدلُّوا بحديثِ الأعمشِ عَن مُسلمٍ البَطين عن سعيدِ بن جُبَيرٍ عن ابن عبَّاسٍ ☻ قال: جاء رجلٌ إلى رسولِ الله صلعم فقال: إنَّ أمِّي ماتتْ وعليها صَومٌ، أفأصومُ عنها؟ قال: ((نعم)). قال بعضُهم: وَلا يصحُّ أنْ يُجعَلَ حَدِيثُ الأعمش مفسِّرًا لحديثِ الزُّهْرِيِّ لأنَّه قد اختُلِفَ فِيْهِ عن الأعمشِ فقال فِيْهِ قومٌ: إنَّ امرأةً جاءتْ إِلَى رسولِ الله صلعم فقالتْ: يَا رسول الله إنَّ أمِّي ماتت وَعليها صيامٌ، وَهَذَا يدلُّ أنَّه لَيس السَّائلُ عَن ذَلِكَ سعدَ بنَ عُبَادةَ وأنَّها كانت امرأةً، وقد ذكرنا أنَّ ابنَ عبَّاسٍ كَاَنَ يفتي أَلَّا يصومَ أحدٌ عن أحدٍ.
          وقال آخَرون: كَاَنَ عِتقًا، واستدلُّوا بحديثِ القاسم بن محمَّدٍ أنَّ سعدَ بن عُبادةَ قال: يَا رسولَ الله إنَّ أُمِّي هلكتْ فهل ينفعُها أنْ أُعتِقَ عنها؟ قال: ((نعم)). قالوا: وَهَذَا يفسِّر النَّذْرَ المُجمَلَ في حَدِيثِ ابنِ عبَّاسٍ.
          وقال آخَرون: كَاَنَ صدقةً، واستدلُّوا بحديثِ مالكٍ عن سعدِ بن عُبادةَ: خرج في بعضِ المغازي فَحَضَرتْ أمَّهُ الوفاةُ فقيل لها: أوصي، فقالت: فيم أُوصي وإنَّما المال مالُ سعْدٍ؟ فتوفِّيت قبل أنْ يَقْدَمَ سعْدٌ، فلمَّا قَدِم ذُكِرَ ذَلِكَ له فقال سعْدٌ: يَا رسولَ الله هَل ينفعُها أن أتصدَّق عنها؟ فقال: ((نعم)). وليس في هَذا بيانُ النَّذرِ المذكورِ، بل الظَّاهرُ في الحَدِيثِ أنَّه وَصيَّةٌ، والوَصيَّةُ غيرُ النَّذرِ، وَلا خلاف بين العلماء في جواز صَدقةِ الحيِّ عَن الميِّتِ نذرًا كَاَنَ أو غيرَه. قلتُ: وجاء في حَدِيثٍ أنَّه.
          وقال آخرون: كَاَنَ نَذْرًا مطلقًا لَا ذِكْرَ فِيْهِ لِصِيامٍ ولا عِتقٍ ولا صدقةٍ. قالوا: ومَن جعل عَلَى نفْسِه نذرًا مُبهَمًا فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، رُوِيَ هذا عَن ابنِ عبَّاسٍ وعائِشَةَ وجابرٍ. قال ابنُ بطَّالٍ: وَهُوَ قولُ جُمهورِ الفقهاء، ورُوِيَ عَن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ وَقتَادَةَ: أنَّ النَّذرَ المبهمَ أغلظُ الأَيمان، وَله أغلظُ الكفَّاراتِ عِتقٌ أو كِسوةٌ أو إطعامٌ. قال: والصَّحيحُ قولُ مَن جَعَلَ فِيْهِ كفَّارةَ يمينٍ لِمَا رواه ابنُ أبي شيبةَ عَن وكِيعٍ عن إسماعيلَ بنِ رافِعٍ عن خالدِ بن يزيدَ عن عُقْبةَ بن عامرٍ قال: قال النَّبِيُّ صلعم: ((مَن نذرَ نذرًا لَمْ يُسمِّه فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ)).
          فَصْلٌ: قال المهلَّبُ: قولُه: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ) هُو تمثيلٌ منه وَتعليمٌ لأُمَّتِه القياسَ والاستدلال، ويُبيَّنُ ذَلِكَ أنَّ الدُّيونَ لازمةٌ للأمواتِ في ذِمَّتهم، فإنْ لَمْ يكن لهم ذِمَّةٌ مِن المالِ لَمْ يلزمْهم الدَّينُ إلَّا في الآخرةِ، فحذَّرَ الشَّارعُ مِن أنْ يبقَى عَلَى الميِّتِ تِباعةٌ مِن دَيْنٍ كَاَنَ خَلَّفَهُ، أو مِن طاعةٍ كَاَنَ نَذَرَها، وعَرَّفَ أنَّ ما لزِمَهُ لله أحقُّ أنْ يُقضَى ممَّا لَزِمَ لِأَحدٍ مِن عبادِه حضًّا وندْبًا.