التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب النذر فيما لا يملك وفي معصية

          ░31▒ بَابُ النَّذْرِ فِيْمَا لَا يَمْلِكُ وَفِي المَعْصِيَةِ
          ذَكَرَ فِيْهِ أحاديثَ:
          6700- أحدُها: حَدِيثُ عَائِشَةَ ♦: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ). الحَدِيثَ. وقد سَلفَ قريبًا [خ¦6696]. /
          6701- ثانيها: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ ☺ أنَّه صلعم قَالَ: (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ)، وَرَآهُ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ. وَقَالَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ.
          يريدُ بِذَلِكَ مَا ذكرَه في الحجِّ: حدَّثنا محمَّد بن سلام، حدَّثنا الفَزَارِيُّ هو مَرْوَانُ، فَذَكَرَهُ [خ¦1865].
          6702- ثالثُها: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: (أَنَّه صلعم رَأَى رَجُلًا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ).
          وعنه: (أَنَّه ◙ مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ يَقُودُ إِنْسَانًا بِخِزَامَةٍ فِي أَنْفِهِ فَقَطَعَهَا ◙ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَقُودَهُ بِيَدِهِ).
          رابعُها: حَدِيثُ وُهَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلعم يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ صلعم: (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ). قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: حَدَّثنا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم.
          الشَّرح: الخِزَامَةُ _بكسْرِ الخاءِ_ حَلَقةٌ مِن شَعَرٍ تُجعَلُ في أنفِ البعيرِ في الحاجزِ الَّذي بين المَنْخِرَيْنِ يُشدُّ فيها الزِّمامُ. وَسَلفَ حَدِيثُ أبي إسرائيلَ، وأنَّه ◙ أمرَه أنْ يفعل مَا هو طاعةٌ مِن ذَلِكَ وَهُوَ الصَّومُ.
          ثُمَّ اعْلَم أنَّه ليسَ في هذه الأحاديثِ شيءٌ مِن معنى النَّذْرِ فيما لا يَملك، وقد سلفَ قبل هذا شيءٌ منه، نعم فيها مَن نَذَرَ معصيةً، وما ليس بطاعةٍ.
          وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالكٌ: مَن نذرَ معصيةً كالزِّنا فلا شيء عليه ويستغفرُ استدلالًا بقولِه: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ) ولم يذكر كفَّارةً. قال مالكٌ: وكذلك إذا نَذَر مَا ليس بطاعةٍ ولا معصيةٍ كالأكلِ مثلًا فَلا شيءَ عليه أيضًا لأنَّه ليس في شيءٍ مِن ذلك طاعةٌ، استدلالًا بحديثِ أبي إسرائيلَ.
          قال مالكٌ: ولمْ أسمع أنَّه ◙ أَمَرَه بكفَّارةٍ، وَقد أَمَرهُ أنْ يُتمَّ مَا كان للهِ طاعةً ويَتْرُكَ ما خالفَه. وقول الشَّافعيِّ كقول مالكٍ. وقال أبو حنيفَةَ والثَّوريُّ: مَن نَذَرَ معصيةً كان عليه مع تَرْكِها كفَّارةُ يمينٍ، واحتجُّوا بحديثِ عِمْرانَ بن حُصَينٍ وأبي هُرَيرةَ ♥ أنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: ((لا نذرَ في معصيةِ الله، وَكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ)).
          قال ابن بطَّالٍ: وَهذا حديثٌ لا أصلَ له لأنَّ حديثَ أبي هُريرَةَ إنَّما يدور عَلى سليمانَ بن أَرْقمَ وهو متروكُ الحديث، وَحديث عِمْرانَ يدور على زُهيرِ بن محمَّدٍ عن أبيه، وأبوه مجهولٌ لم يروِ عنه غيرُ ابنِه زهيرٌ، وزهيرٌ أيضًا عندَه مناكِيرٌ.
          فَصْلٌ: وفي قولِه ◙: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ) حُجَّةٌ لمن قال: إنَّ مَن نذَرَ أن ينحرَ ابنَه فلا كفَّارةَ عليه لأنَّه لا معصيةَ أعظمُ مِن إراقةِ دمِ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ، ولا معنى للاعتبارِ في ذلك بكفَّارةِ الظِّهار في قولِ المنكَرِ مِن القولِ والزُّور، كما اعتبر ذلك ابنُ عبَّاسٍ لأنَّ الظِّهار ليس بنذْرٍ، والنَّذرُ في المعصية قد جاء فيه نصٌّ عَن رَسُوْلِ الله صلعم.
          قَال مالكٌ: مَن نذر أنْ ينحَرَ ابنه ولم يقلْ: عند مقامِ إبراهيمَ، فَلا شيء عليه، وَكذلك إنْ لَمْ يُرِدْ أنْ يَحِجَّهُ، وَإنْ نوى وجه ما يُنحَرُ فعليه الهدْيُ. وقال أبو حنيفَةَ: إِذَا حلف أَنْ ينحَرَ وَلدَه عليه شاةٌ، وَقالَ أبو يوسُفَ: لَا شيءَ عليه، وَبه أخذ الطَّحاويُّ.
          فَصْلٌ: وَفي حديث أبي إسرائيلَ دليلٌ على أنَّ السُّكوتَ عَن المباح أو عن ذِكْر الله ليس مِن طاعةِ الله، وَكذلك الجلوسُ في الشَّمس، وَفي معناه كلُّ مَا يتأذَّى به الإنسانُ ممَّا لا طاعةَ فيه لله ولا قُربةَ بنصِّ كتابٍ أو سنَّةٍ، كالحَفَاء وَغيرِه، وإنَّما الطَّاعةُ مَا أَمَرَ اللهُ ورسولُه بالتَّقرُّبِ بعملِه لله، أَلَا ترى أنَّه ◙ أمرَه بإتمامِ الصِّيامِ لَمَّا كان طاعةً لله.