التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا أهدى ماله على وجه النذر والتوبة

          ░24▒ بَابٌ إِذَا أَهْدَى مَالَهُ عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ وَالتَّوْبَةِ
          6690- ذَكَرَ فيه حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فِي حَدِيثِهِ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، فَقَالَ فِي آخِرِه: إِنَّ مِنْ تَوْبَتي أَنِّي أَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ).
          الشَّرح: ظَاهرُه أنَّه أُمِرَ أَنْ يتصدَّقَ بجزءٍ جيِّدٍ مِن مالِه، ولعلَّه أكثرُ مِن ثُلُثِه لأنَّ بعض الشَّيء جزءٌ مِن أجزائِه، وَلعلَّه ◙ عَلِمَ أنَّه ذو مالٍ طائلٍ وأنَّ بعضَه فِيهِ لَه كفايةٌ، وَهو يؤِّيدُ قولَ سُحنُون: إنَّ مَن حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِه يُخرِجُ مَا لا يُضِرُّ به، وَيؤيِّده قولُه ◙: ((لَا صدقةَ إِلَّا عَن ظَهْرِ غِنىً)) وفي «الموطَّأ» فِي حَدِيْثِ كعبٍ هَذَا قال له النَّبِيُّ صلعم: ((يُجزئكَ الثُّلُث)).
          واختُلِفَ فِي قَوْلِه:(مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي) هل التزمَ الصَّدقةَ بجميعِ مالِه، أو إِنَّمَا أرادَ أَنْ يفعلَ وَلم يوجِبْ ذَلِكَ؟ واحتجَّ مَن قَالَ: التزمَ، بقولِه ◙: ((يجزئك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ)) فلو كَانَ الكلامُ مِنه عَلَى سبيلِ المشورةِ والعرْضِ مَا قال ذَلِكَ، وقد يُنازَع فيه.
          واختُلِف فيمَن حَلَفَ بصدقةِ مالِه فَحَنِثَ عَلَى ثمانيةِ أقوالٍ:
          أحدُها: يلزمُه ثُلُثُ مالِه، قاله مالكٌ. ثانيها لابنِ وَهْبٍ: إنْ كَانَ مَلِيًّا فَكذلك، وإنْ كَانَ فقيرًا فَكفَّارةُ يمينٍ وهو قول اللَّيثِ وإنْ كَانَ متوسِّطًا يُخِصُّهُ الثُّلُثُ فأقولُ فِيهِ بِقولِ رَبِيعَةَ أنَّه يُخرِجُ زكاةَ مالِه. وقال سُحنُون: يُخرج مَا لا يُضِرُّ به، وسلَفَ ذِكرُه. وقال النَّخَعيُّ: يُخرِجُ جميعَ مالِه. وَقال أبو حنيفَةَ: إنْ علَّقه بشرطٍ كإنْ دخلْتُ الدَّار أو إنْ شَفَى اللهُ مريضي، فالقياس أَنْ يلزَمَهُ كلُّ مالِه ويُستحسن بالأموالِ الَّتِي تجبُ فيها الزَّكاةُ.
          وقال الشَّافعيُّ: إنْ أخرجه مَخرَج التَّبرُّرِ مثل: إنْ شَفَى اللهُ مريضي، فيلزمُهُ جميعُ مالِه، وإنْ كَانَ لَجَاجًا وغضبًا فيقصدُ مَنْعَ نفسِهِ مِن فِعْلٍ مُباحٍ كإنْ دخلتُ الدَّارَ، فهو بالخِيَار، إنْ شاء يَفِي بذلك أو يكفِّرُ كفَّارةَ يمينٍ. وَقال ابنُ أبي ليلى: لا يلزمُه شيءٌ أصلًا، وَقاله الشَّعبيُّ وَالحَكَمُ وحمَّاد.
          وروى قَتَادةُ عن جابرٍ: إنْ كَانَ كثيرَ المال لَزِمَهُ العُشْرُ وإنْ كَانَ متوسِّطًا فالسُّبُعُ، وإنْ كَانَ قليلًا فالخُمُسُ. وقال قَتَادةُ: والكثيرُ ألفانِ والوسَطُ ألفٌ والقليلُ خمسُ مِئةٍ. فَهذه ثمانية أقوالٍ مِنها ثلاثةٌ فِي مذهب مالكٍ.
          وحكى ابنُ بطَّالٍ فِي المسألة خمسةَ أقوالٍ، وفَرَضَها فِي قولِ الرَّجُلِ: مالي فِي سبيل الله.
          فحَكَى أوَّلًا: عن طائفةٍ لا شيء عليه، ونَسَبَهُ إِلى الشَّعبيِّ وابنِ أبي ليلى وطَاوُسٍ.
          وثانيًا: أنَّ عليه كفَّارةُ يمينٍ، رُوِيَ عن عُمَرَ وابنِه وابنِ عبَّاسٍ وعائِشَةَ، وأنَّه قولُ عطاءٍ، وأنَّه ذهبَ إليه الثَّوريُّ والأوزاعِيُّ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ.
          وثالثًا: وَهو أنْ يتصدَّقَ مِن مالِه بِقَدْرِ الزَّكاةِ، رُوِيَ أيضًا عَن ابنِ عُمَرَ وابنِ عبَّاسٍ وبه قال رَبِيعةُ.
          ورابعًا: أنْ يُخرِجَ ثُلُثَ مالِه فيتصدَّقَ به، وَهو قول مالكٍ.
          وخامسًا: يُخرِجُ مالَه كلَّه، رُوِيَ عَن النَّخَعيِّ وهو قولُ أبي حنيفَةَ وزُفرَ، إلَّا أنَّ أبا حَنيفةَ قَال: يتصدَّقُ بالأموالِ الَّتِي تجبُ فيها الزَّكاةُ خاصَّةً. وقال زُفَرُ: يحبِسُ لنفْسِه مِن مالِه قوتَ شهرينِ ثمَّ يتصدَّق بمِثْلِه إذا أفادَ.
          حُجَّة الأوَّلِ أنَّه لو قال: مالي حرامٌ، لم يَحْرُمْ عليه بإجماعٍ فكذلك في هذه المسألة. واحتجَّ الشَّافعيُّ بحديثِ أبي الخير عَن عُقْبةَ بنِ عامرٍ، أنَّه ◙ قال: ((كفَّارةُ النَّذرِ كفَّارةُ يمينٍ)) وَهَذَا أخرجه مُسلمٌ، فظاهرُه يقتضي أنَّ كلَّ نذرٍ كفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ / إلَّا مَا قام دليلُه. وذَهَبَ رَبِيعةُ إلى أنَّ الزَّكاةَ جعلها الله طُهرةً لِلأموالِ، فكذلك هذا الحالِفُ بِصدقةِ مالِه يطهِّرُه ما تُطهِّرُهُ الزَّكاةُ.
          واحتجَّ أبو حنيفةَ بقولِه تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة:75] فبيَّنَ تعالى أنَّهم لَمَّا لم يَفُوا بما عاهدوا اللهَ عليه استحقُّوا الوعيدَ وَالذَّمَّ فَلَزِمَهُم الوفاءُ به.
          واحتجَّ ابنُ شهابٍ لمن قال: يُجزئِهُ الثُّلُثُ بحديثِ البابِ (أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) وقولِه ◙ لأبي لُبابةَ في مِثل ذلك: ((يجزئكَ الثُّلُثُ)) فكان مبيِّنًا لِمَا أُجمِلَ في حديثِ كعبٍ مِن مقدارِ الجزء المتصدَّقِ به، فثبتَ بحديثِ أبي لُبابةَ التَّقديرُ وَسقطت سائرُ الأقاويلِ، وقد أسلفْنا مِثْلَه فِي حَدِيْثِ كعبٍ أَيضًا.
          قَال ابن القصَّار: ومِن الحُجَّةِ لمالكٍ قولُه تَعَالَى: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيا} [القصص:77] فأَمَرَ تَعَالَى نبيَّه بِأَلَّا ينسَى نصيبَه مِن الدُّنيا لِمَا بالخلْقِ ضرورةٌ إليه مِن القُوتِ ومَا لا بدَّ منه، ووجب الاقتصار عَلى إخراج الثُّلُثِ لِمَا ذُكِرَ، ويدلُّ عَلى صِحَّةِ هذا القولِ أنَّ المريضَ لَمَّا مُنِعَ مِن إخراجِ مالِه إلَّا الثُّلُثَ نَظَرًا لورثتِه وإبقاءً عليهم وَجَبَ أنْ يُبقِيَ المرْءُ عَلى نفْسِه متى قَصَدَ إخراجَ مالِه كلِّه.
          وأمَّا مَن قال: يُخرِجُ زكاةَ مالِه فَلا وجه له؛ لأنَّها واجبةٌ عَلى الإنسانِ وإنْ لَمْ ينذُرها. وأمَّا قولُ أبي حنيفَةَ أنَّه لا يُخرِجُ إلَّا الأموالَ الَّتِي تجِبُ فيها الزَّكاةُ فقط، فإنَّا نقول: إنَّ الأموالَ تشتمل عَلى ما فيه الزَّكاةُ وَعلى مَا لا زكاة فيه، قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب:27] ولم يفرِّقْ بين عبيدِهم وَعُروضِهم، وبين العَيْنِ والوَرِقِ، والحَرْثِ والماشيةِ.