التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الوفاء بالنذر

          ░26▒ بَابُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ
          وَقَوْلِهِ ╡: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7].
          6692- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ سَعِيدِ بْنِ الحَارِثِ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ ☻ يَقُولُ: أَوَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ النَّذْرِ؟! إِنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: (إِنَّ النَّذْرَ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِالنَّذْرِ مِنَ الْبَخِيلِ).
          6693- وحَدِيْثَ ابْنِ عُمَرَ ☻ أَيضًا: نَهَى النَّبيُّ صلعم عَنِ النَّذْرِ وَقالَ: (إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَلَكِنَّه يُسْتَخْرَجُ بِه مِنَ الْبَخِيلِ).
          6694- وحَدِيْثَ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: (لَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ النَّذْرُ بِشَيْءٍ لَمْ أَكُنْ قَدَّرْتُهُ، وَلَكِنْ يُلْقِيهِ النَّذْرُ إِلَى الْقَدَرِ قَدْ قَدَّرْتُهُ، فَيَسْتَخْرِجُ اللهُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ).
          أَيْ: أنا قدَّرْتُ عليه الشِّدَّةَ الَّتِي نَذَرَ مِن أجْلِها فيجعلُ هُوَ النَّذْرَ لِيَحُلَّها عَنْهُ، والنَّذرُ لا يَحُلُّ عَنْهُ الشَّدَّةَ فَهو لا يُغني شيئًا والمقدورُ كائنٌ، فَيَجْعَلُ النَّاذرُ هَذَا الفعلَ سَلامةً مِن الشِّدَّة المقدَّرةِ، ويكونُ ذَلِكَ النَّذرُ سهمًا أستخْرِجُهُ مِن البخيل للشِّدَّةِ الَّتِي عرضتْ له، فهذا تفسيرُ: (فَيُؤْتِي عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْتِي) لو لم يقدِّر عليه الشِّدَّةَ (مِنْ قَبْلُ) وفيه ردٌّ عَلَى القَدَريَّةِ.
          فَصْلٌ: حَدِيْثُ ابنِ عُمَرَ وأَبِي هُرَيْرَةَ سَلَفَا فِي كتابِ القَدَرِ [خ¦6608] [خ¦6609] واختُلِفَ عندَنا فِي ابتداءِ النَّذْرِ فقيل إنَّه مستحبٌّ، وقيل مكروهٌ، وبه جزم الثَّوريُّ، ونصَّ الشَّافعيُّ عَلَى أنَّه خلافُ الأَوْلَى.
          وحمل بعضُ المتأخِّرينَ النَّهيَ عَلَى نذْرِ اللَّجاجِ واستَحبَّ نذرَ التَّبرُّر، وَقام الإجماعُ عَلَى وجوبِ الوفاءِ به إِذَا كَانَ طاعةً، وقدْ قَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وَقَالَ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] فمَدَحَهُم بِذَلِكَ، وقولُه ◙: ((مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللهَ فَلْيُطِعْهُ)).
          وإنَّما اختلفوا فِي اليمينِ بالطَّاعةِ كالصَّدَقَةِ بالمالِ وَالمشيِ إِلَى مكَّةَ، فذهبَ مالكٌ إِلَى أَنَّ اليمينَ فِي ذَلِكَ كالنَّذر وأنَّ كفَّارتَها الوفاءُ بها، ورَأى بعضُ العلماء أنَّها أيمانٌ يكفِّرُها مَا يكفِّرُ اليمينَ، وَليستْ فِي معنى النَّذرِ فيلزمُ الوفاءُ لأنَّ النَّذْرَ قُصِدَ به التَّبرُّرُ وَالطَّاعةُ، وَهذه الأَيْمانُ إِنَّمَا قُصِدَ بها إلى أشياءَ مِن أمورِ الدُّنيا كقولِهم: مَالي صدقةٌ إنْ فعلتُ كذا، فافترَقا لهذه العلَّةِ.
          قال المهلَّب: قولُه: (لاَ يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلاَ يُؤَخِّرُهُ) يعني مِن قَدَرِ اللهِ ومشيئتِه.
          وقولُه: (يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ) يعني أَنَّ مِن النَّاسِ مَن لا يَسمحُ بالصَّدقةِ وَالصَّومِ إلَّا إذا نَذَرَ شيئًا لخوفٍ أَو طَمَعٍ، فكأنَّه لَولا ذلك الشَّيءِ الَّذي طَمِعَ فيه أو خَافَه لم يَسْمَحْ بإخراجِ مَا قدَّرَهُ اللهُ تعالى ولا يفعلُه فهو بخيلٌ.
          وقَوْلُهُ: (فَيُؤْتِي عَلَيْهِ) يعني فعلَ مَا يجعلُه النَّاذرُ عَلَى نفْسِه لله ممَّا لم يكن يفعلُه بغيرِ نذرٍ.