التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا حلف أن لا يأتدم فأكل تمرًا بخبز وما يكون من الأدم

          ░22▒ بَابٌ إِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَأْتَدِمَ فَأَكَلَ تَمْرًا بِخُبْزٍ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُ الأُدْمُ
          6687- ذَكرَ فِيهِ حَدِيْثَ عَائِشَةَ ♦ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: (مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلعم مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللهِ).
          وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ بِهَذَا.
          6688- وَحَدِيْثَ أَنَسٍ ☺ السَّالِفَ [خ¦3578] [خ¦5381] [خ¦5450] وفِيهِ: (فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فأَمَرَ بِهَ رَسُوْلُ اللهِ صلعم فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً لَهَا فَأَدَمَتْهُ).الحديثَ بِطُولِه.
          الشَّرح: إِنَّمَا أَتَى البُخَاريُّ ☼ بقولِه: (وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) لِيَزُولَ تَوَهُّمُ مَا قد يُتَوَهَّمُ مِن عدمِ سماع سُفْيانَ مِن عبدِ الرَّحمن.
          والبُرُّ جمع بُرَّةٍ مِن القمحِ، ومنع سِيبَويْه أَنْ يُجمَعَ عَلَى أَبْرَارٍ وجوَّزه المبرِّد. والأقراصُ فِي الحَدِيْثِ الثَّاني جمْعُ قُرْصٍ، وقُرْصٌ جمْعُه قِرَصَةٍ، كغُصْنٍ وغِصَنَةٍ وَأَغْصَانٍ.
          وقَوْلُهُ: (هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ؟) كذا فِي الأصولِ، وَذكره ابنُ التِّين بلفظِ: <هَلُمَّ> بحذْفِ الياء، ثمَّ قَالَ: إنَّه عَلَى لغةِ أهلِ الحِجَاز أَنَّ هَلُمَّ يُستوي فِيْهِ المذكَّرُ والمؤنَّثُ والجمْعُ والمفرَدُ، قال تَعَالَى: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الاحزاب:18] والعُكَّةُ _بِضَمِّ العينِ_ آنِيةُ السَّمْنِ.
          ومعنى: (فَأَدَمَتْهُ) جَعَلَتِ السَّمْنَ إِدَامَه، وَهُو ثُلَاثيٌّ، يُقَالُ: أَدَمَ الخُبزَ يأَدِمُهُ بالكسْرِ، وقَوْلُ عائِشَةَ ♦ قبلُ: (مِنْ خُبْزِ بُرٍّ مَأْدُومٍ) يدلُّ عَلَى صحَّةِ ذَلِكَ لأنَّ مفعولًا لَا يكون إِلَّا مِن الثُّلاثيِّ، ولو كَانَ الفِعلُ رُباعيًّا لقالت: خُبْزِ بُرٍّ مُؤَدَّم.
          فَصْلٌ: واختلف العلماءُ فيمن حَلَفَ أَلَّا يأكُلَ إِدَامًا فأكلَ لحمًا مشويًّا، فقال مالكٌ وَالشَّافعيُّ: يَحْنَث كَما لو أكلَ زيتًا وَخَلًّا. وقال أبو حنيفَةَ وأبو يُوسُفَ: الإِدَامُ ما يُصطبغ به مثل الزَّيتِ والعَسَلِ والخلِّ، فأمَّا مَا لا يُصطبَغُ به مِثل اللَّحمِ المشويِّ والجُبن والبَيْضِ فليس بإدامٍ. وعند المالكيَّةِ: يَحْنَثُ بكلِّ مَا هُوَ عند الحالِفِ إِدَامٌ، ولكلِّ قومٍ عادةٌ.
          قال محمَّدٌ: مَا كان الغالبُ منه أنَّه يُؤكَلُ بالخُبزِ فهو إِدَامٌ، حكاه ابنُ بَطَّالٍ وحِكايةُ ابنِ التِّين عَنْهُ: يَحْنَثُ بِأَكْلِ السَّمْنِ وَالعسَلِ والزَّيتِ والوَدَكِ والشَّحْمِ والزَّيتونِ والجُبْنِ والصَّبْرِ والشَّلْجَم والمُرِّيِّ والشِّبراقِ وشبه ذَلِكَ، قَالَ: وَلا أرى أَنْ يَحْنَثَ بالملحِ الجَرِيشِ ولا المطيَّب وإنْ كَانَ قد أحنثَهُ بعضُ العلماء به. وقال أصبغُ عن أشهبَ فِي «العُتبيَّة»: يَحْنَث بالملحِ محضًا أو مُطَيَّبًا.
          حُجَّةُ الكوفيِّينَ أنَّ حقيقةَ الإِدَامِ هو اسمٌ للجمعِ بين شيئين، قال ◙: ((إذا أراد أحدُكم أنْ يتزوَّج المرأة فلينظرْ إليها، فإنَّه أحرى أنْ يُؤدَمُ بينهما)) معناه أن يُجمعَ بينهما، وقيل: إنَّه مِن الدَّوامِ، وقيل: مِن وقوعُ الأَدَمَةِ عَلَى الأَدَمَةِ، وَليس كلُّ اسمٍ يتناولُه إطلاقُ الاسمِ، بدليل مَن جَمَعَ بين لُقمتينِ لا يُسمَّى بهذا الاسمِ، وإنَّما المرادُ أنْ يستهلِكَ فيه الخُبزَ ويكونَ تابعًا له بأن تتداخل أجزاؤه بأجزاء غيرِه، وهَذا لا يحصلُ إلَّا فيما يُصطَبَغُ به وَهذا الوجه مُجتمَعٌ عليه، ومَا سواه مختلَفٌ فيه فَلا يَصِحُّ إثباتُه إلَّا بِلُغةٍ أو عادةٍ، وقد قال تعالى: {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} [المؤمنون:20].
          قال ابن القصَّار: فيُقال لهم: لَا خلافَ بين أهلِ اللُّغةِ أنَّ مَن أَكَلَ خُبزًا بِلَحْمٍ مَشْوِيٍّ أنَّه قد ائتدَمَ به، وَلو قال: أكلتُ خبزي بِلا أَدَمٍ لكان كاذبًا، وَلو قال: أكلتُ خُبزي بإدامٍ كَان صادقًا. فيُقال لهم: أمَّا قولكم: إنَّ الإِدَامَ اسمٌ للجمع بين شيئين، فَكذلك نقولُ، وليس الجمعُ بين شيئين هو امتزاجُهما واختلاطُهما، بلْ هو صِفةٌ زائدةٌ عَلى الجَمْع لأنَّنا نعلمُ أنَّ الخبزَ بالعسلِ ليس يَستهلِكُ أحدُهما صاحبَه، ولا الخبز مع الزَّيتِ أيضًا، فلمْ نراعِ في الشَّريعة في الجمعِ الاستهلاكَ، وأمَّا الخلُّ وَالزَّيت فهو وإنْ تشرَّبه فَليس بِمُستهلَكٍ فِيهِ، إذْ لو كان كذلكَ لم يبقَ لونُه وَلا طعمُه، وإنَّما المُراعَى في الجمْعِ بين الشَّيئينِ هُو أنْ يُؤكَلَ هَذا بهذا على طريقِ الائتدامِ به، سواءٌ كَان مائعًا أو غيرَه كالعسلِ والسَّمْنِ الذَّائبِ.
          قال غيرُه: والدَّليلُ عَلى أنَّ كلَّ ما يُؤتدَمُ بِه يُسمَّى إدامًا الحَدِيْثُ السَّالفُ: ((تكونُ الأرضُ خُبْزةً يومَ القيامة، إِدَامُها زيادةُ كبدِ نونٍ وثورٍ)) / فجعلَ الكبِدَ إدامًا، فكذلك التَّمرُ، وكلُّ شيءٍ غير مائعٍ فهو إدامٌ كالكَبِدِ.
          ورَوَى حفصُ بن غِيَاثٍ عَن محمَّد بن أبي يَحيى الأَسْلَمِيِّ عن يزيدَ الأعورِ عَن ابنِ أبي أُميَّةَ عن يوسُفَ بنِ عبدِ الله بن سَلَامٍ قال: رأيتُ النَّبيَّ صلعم أَخَذَ كِسْرَةً مِن خبزِ شعيرٍ، فوضعَ عليها تمرًا وَقال: ((هذه إدامُ هَذهِ)) فَأَكَلَها.
          ورَوَى القاسمُ بنُ محمَّدٍ عن عائِشَةَ ♦ قالتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رسولُ الله صلعم والبُرْمَةُ تفورُ بِلَحْمٍ، فَقُرِّبَ إليه أَدَمٌ مِن أَدَمِ البيت، فقال: ((ألم أرَ بُرْمةً فيها لحمٌ)) الحديثَ. فدلَّ هَذا الحديثُ أنَّ كلَّ ما في البيتِ ممَّا جرتِ العادةُ بالائتدامِ به فهو إِدَامٌ مائعًا كان أو جامدًا.
          فَصْلٌ: قال ابنُ التِّين: وإنْ حلَفَ لَا يأكلُ فاكهةً حَنِث بأكْلِ الفَاكهة كلِّها يابسِها ورَطْبِها عند ابنِ حبيبٍ، ذكرَه أو لم يذكُرْه. وقال محمَّدٌ نحوَه إِذَا ذَكَرَ يابِسَها ورَطْبَها، يريد أنَّه لا يَحْنَثُ فِي يابِسها إِلَّا إِذَا ذَكَرَهُ لأنَّ الفاكهة إِنَّمَا تُطلق عندَه عَلَى الطَّريِّ خاصَّةً.