التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا قال أشهد بالله، أو: شهدت بالله

          ░10▒ بَابٌ إِذَا قَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ، أَوْ شَهِدْتُ بِاللهِ
          6658- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عن عَبْدِ اللهِ ☺، سُئِلَ النَّبِيُّ صلعم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ.
          إنَّما قَصَدَ البُخاريُّ مِن هذا الحديثِ إلى قولِ إبراهيمَ: (وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَنْهَوْنَنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ) يريدُ: أَشهدُ باللهِ وَعَلَيَّ عهدُ الله. فَدَلَّ نهيُهم عَن الحَلِفِ بذلكَ أنَّهما يمينانِ مغلَّظانِ، ووجهُ النَّهيِ عنهما واللهُ أعلمُ أنَّ قولَه: أَشْهَدُ باللهِ، يقتضي معنى العِلْمِ بالقَطع، وعهدُ الله لا يقدِرُ أحدٌ على التزامِه بما يجب فِيْهِ. وعبارة ابنِ التِّين أَنَّ معناه: يريدُ أَنْ يقولَ: وشهادةِ الله، وعهدِ الله.
          وقد أسلفْنا فِي بابِ لا تحلِفُوا بآبائكم فصلًا فِي الحَلِفِ بأَشهدُ باللهِ وَخلافَ العلماءِ فِيْهِ، وأبسُطُهُ هنا، والحاصلُ فِيْهِ للعلماء أقوالٌ:
          أحدُها: أَنَّ أَشهدُ وَأحلِفُ وأعزِمُ كلُّها أيمانٌ تجِبُ فيها الكَفَّارَةُ، وَهو قولُ النَّخَعيِّ وأبي حَنِيفةَ والثَّوريِّ، وقال رَبيعةُ والأوزاعِيُّ: إذا قال: أشهدُ لا أفعلُ كذا ثمَّ حَنِثَ فهي يمينٌ.
          ثانيها: أَنَّ أَشْهدُ لا تكونُ يمينًا حَتَّى يقولَ: أَشهدُ باللهِ، وكذلك أحلِفُ وأَعزِمُ إذا أَرَادَ بالله، وإنْ لَمْ يُرِدْ ذلك فليستْ بأَيمانٍ، قال ابن خواز منداد: وضعَّفَ مالكٌ أَعْزِمُ بالله، وكأنَّه لم يَرَهُ يمينًا إلَّا أنْ يريدَ به اليمينَ لأنَّه يكونُ عَلى وجه الاستعانةِ فيقولُ الرَّجُلُ: أعزِمُ بالله وأصولُ باللهِ، كأنَّه يقولُ: أستعينُ بالله، ولا يجوز أنْ يُقالَ: إنَّ قَوْلَ الرَّجُلِ: أستعينُ بالله، يكون يمينًا.
          ثالثُها: أَنَّ أَشْهَدُ باللهِ وأَعْزِمُ باللهِ كنايةٌ، حكاهُ المزَنيُّ عَن الشَّافعيِّ، وحكى الرَّبيعُ عنه: إنْ قالَ: أَشْهَدُ وأَعْزِمُ ولم يقُلْ: باللهِ، فهو كقولِه: واللهِ، وإنْ قالَ: أَحلِفُ، فلا شيءَ عليه إلَّا أنْ ينوِيَ اليمينَ.
          واحتجَّ الكوفيُّونَ بقولِه تعالى: {وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ثمَّ قال:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2] فدلَّ أنَّ قولَ القائلين: أَشهدُ يمينٌ لأنَّ هذا اللَّفظَ عبارةٌ عَن القَسَمِ، وإنَّما يُحذَفُ اسمُ اللهِ اكتفاءً بما يدلُّ عليه اللَّفظُ.
          واحتجَّ أصحابُ مَالكٍ أنَّ قولكَ: أشهدُ لا تفعلَنَّ كذا، ليس بصريحِ يمينٍ لأنَّه يحتملُ أنْ يريدَ: أشهدُ عليك بشيءٍ إنْ فعلتَ كذا، وَقد يقول: أشهدُ بالكعبةِ وبالنَّبِيِّ، فلا يكونُ يمينًا. وأنكر أبو عُبَيدٍ أنْ يكونَ أشهدُ يمينًا، وَقال: الحالفُ غيرُ الشَّاهدِ، قال: وهذا خارجٌ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ / وَمِن كلامِ العربِ.
          قال الطَّحاويُّ: وقولُه: (ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ...) إِلَى آخرِه، إنَّما أراد ◙ أنَّهم يُكثِرون الأَيمان على كلِّ شيءٍ حتَّى تصيرَ لهم عادةً، فيحلفُ أحدُهم حيث لا يُرادُ منه اليمينُ وقبلَ أنْ يُستحلفَ، يدلُّ على ذلك قولُ النَّخَعيِّ: (وَكَانُوا يَنْهَوْنَنَا وَنَحْنُ غِلْمَانٌ أَنْ نَحْلِفَ بِالشَّهَادَةِ وَالعَهْدِ، يعني أنْ نحلِفَ بالشَّهادةِ باللهِ وَعلى عهدِ الله، كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] والشَّهادةُ ها هُنا اليمينُ باللهِ، قال تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ} [النور:6] أَي أربعُ أيمانٍ بالله).
          فَصْلٌ: القَرْنُ كلُّ طبقةٍ مقتَرِنين فِي وقتٍ، وَمِنْهُ قيل لأهلِ كلِّ مُدَّةٍ أو طبقةٍ بُعِثَ فيها نبيٌّ قَرْنٌ، قلَّتِ السِّنُونُ أو كثُرت. وقَوْلُهُ: (قَرْنِي) يعني أصحابِي (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) يَعني التَّابعينَ لهم بإحسانٍ، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) تابِعُ التَّابعين. واشتقاقُ قَرْنٍ مِن الاقترانِ، وقيل: القَرْنُ ثمانون سنةً، أو أربعونَ، أو مئة. وقال ابنُ الأَعرابيِّ: القَرْنُ الوقتُ مِن الزَّمانِ. وقال غيرُه: قيل له قَرْنٌ لأنَّه يَقْرِن أُمَّةً بِأُمَّةٍ، عالَمًا بعالَمٍ، وهو مصدرُ قَرَنْتُ، جُعِلَ اسمًا للوقتِ أو لأهلِه.
          فَصْلٌ: وَأصحابُه ◙ أفضلُ الأُمَّةِ، مَن سَمِعَ مِنه كلمةً أو عَقَلَ أنَّه رآهُ، وَأدناهُم منزلةً خيرٌ ممَّن يأتي بعدَهم. قيل لمالكٍ: مَن أفضلُ مُعَاويةُ أو عُمَرُ بنُ عبدِ العزيز؟ فقال: لنظرةٌ نظرها مُعَاويةُ فِي وجه رَسُوْل الله صلعم خيرٌ مِن عَمَلِ عُمَرَ بن عبد العزيز.
          فَصْلٌ: قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ) فِيْهِ قَولان:
          أحدُهما: أَنْ يقولَ: أشهدُ باللهِ أو شهدتُ بالله لَكَانَ كذا.
          والثَّاني: أَنْ يحلِفَ عَلَى تصديقِ شهادتِه قبلَ أَنْ يشهدَ أو بعدَ، والأوَّلُ هُوَ تأويلُ البُخاريِّ.
          فَصْلٌ: قال ابنُ التِّين: اختُلِفَ عندنا إِذَا قَالَ: أشهدُ بالله أو أقسِمُ بالله، أو قَالَ: أشهدُ أو أُقسِم، ولم يقلْ: باللهِ، هلْ هي يمينٌ؟ وفي «الزَّاهي»: إِذَا لم يقلْ باللهِ، لا شيء عليه، قَالَ: وأمَّا مَن حَلَفَ عَلَى تصديقِ شهادتِه قَبْلَ الحكمِ بها فقال ابنُ شَعْبانَ: تسقُطُ شهادتُه، يريدُ كأنَّه لَمَّا حَلَفَ اتُّهِمَ فيما شَهِدَ به فَسَقَطَتْ شهادتُه. وظاهرُ تأويلِ البُخَاريِّ أَنَّ قولَه: أشهدُ بالله، لا يجوزُ.