التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب اليمين فيما لا يملك وفى المعصية وفى الغضب

          ░18▒ بَابُ الْيَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَفِي الْمَعْصِيَةِ، وَاليَمِينُ فِي الْغَضَبِ
          6678- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ أَبِي مُوسَى ☺ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلعم أَسْأَلُهُ الْحُمْلانَ، فَقَالَ: (وَالله لَا أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ)، وَوَافَقْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ، قَالَ: (انْطَلِقْ إِلَى أَصْحَابِكَ، فَقُلْ: إِنَّ اللهَ ╡ _أَوْ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم_ يَحْمِلُكُمْ).
          6679- وحَدِيْثَ عائِشَةَ فِي قصَّةِ الإفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّأَهَا اللهُ، (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ}الآية [النور:22]، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِيْ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُ أَبَدًا).
          6680- ثمَّ ساقَ حَدِيْثَ أَبِي مُوسَى ☺ أَيْضًا: أَتَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلعم فِي نَفَرٍ مِنَ الأشْعَرِيِّينَ، فَوَافَيْتُهُ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَنَا، ثُمَّ قَالَ: (وَاللهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَتَحَلَّلْتُهَا).
          الشَّرح: فِي{وَلَا يَأْتَلِ}قولان:
          أحدُهما: قولُ ابنِ عبَّاسٍ: لا تُقسِمُوا ألَّا تنفعوا أحدًا، وهَذَا الحَدِيْثُ يؤيِّدُه. ثانيهما: لا تُقَصِّرُوا، مِن قولِهم: مَا أَلَوتُ أَنْ أفعلَ. التَّقديرُ: وَلا يحلِفْ أولو الفضل أَنْ يؤتُوا، وعَلَى قولِ الكوفيِّين: لِئلَّا يُؤتُوا، وَمَن قَالَ: لا تُقَصِّرُوا التَّقديرُ عندَه: عن أَنْ يؤتوا.
          فإنْ قلتَ: يؤتُوا للجماعةِ، وَفي الحَدِيْثِ أَنَّ المرادَ الصِّدِّيقُ. قلتُ: رَوَى الضَّحَّاكُ: قال أبو بكرٍ وغيرُه مِن المسلمين: لا نَبَرُّ أحدًا ممَّن ذَكَرَ عائِشَةَ، فنزلتِ الآيَة.
          فَصْلٌ: (اليَمِينِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ) في حديثِ الأشعريِّين معناه أنَّه ◙ حَلَفَ ألَّا يحمِلَهم، فكان ظاهرُ هذه اليمينِ الإطلاقُ والعمومُ، ثمَّ آنَسَهُم بقولِه: ((وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)) ومثالُ هذا أنْ يحلِفَ رَجُلٌ ألَّا يَهَبَ ولا يتصدَّقَ ولا يُعْتِقَ، وهو في حالِ يمينِه لا يملكُ، ثمَّ يطرأ له بعدَ ذلك مالٌ فيَهَبُ أو يَتَصدَّقُ أو يُعْتِقُ، فعند جماعة الفقهاءِ أنَّه يلزمه الكَفَّارَةُ إنْ فعل شيئًا مِن ذلك، كما فعل الشَّارعُ بالأشعريِّينَ أنَّه تحلَّل مِن يمينِه وأتى الَّذي هو خيرٌ، ولو حلفَ ألَّا يَهَبَ ولا يتصدَّقَ ما دام مُعْدِمًا وجعل العُدْمَ علَّةً لامتناعِه مِن ذلك، ثمَّ طرأ له بعد ذلك مالٌ لم يلزمه عند الفقهاء كفَّارةٌ إنْ وهَبَ أو تصدَّقَ أو أعتَقَ؛ لأنَّه إنَّما أوقعَ يمينَه على حالةِ العُدْمِ لا عَلى حالةِ الوجودِ، هذا مَا في حديثِ أبي موسى مِن معنى اليمينِ فيما لا يملِكُ.
          فَصْلٌ: واختلفوا مِن هذا المعنى إذا حَلَفَ الرَّجُلُ يُعْتِقُ مَا لا يملِكُ إنْ مَلَكَهُ في المستقبل، فقال مالكٌ: إنْ عيَّن أحدًا أو قبيلةً أو جنسًا لَزِمَهُ العِتقُ، وإنْ قال: كلُّ مملوكٍ أملِكُه أبدًا حُرٌّ لم يلزمْهُ عِتقٌ، وكذلك في الطَّلاق إنْ عيَّن قبيلةً أو بلْدةً أو صِفَةً مَا، لَزِمَهُ الحِنْثُ، وإنْ لَمْ يعيِّن لم يلزمْهُ. وقال أبو حَنِيفةَ وأصحابُه: يلزمُه الطَّلاقُ والعِتقُ سواءٌ عَمَّ أو خَصَّ. وقال الشَّافعيُّ: لا يلزمُه لا مَا خصَّ ولا مَا عمَّ.
          وحُجَّةُ مالكٍ أنَّ الله تعالى نهى عِبادَهُ أنْ يُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أُحِلَّ لهم، ومَن استثنى موضِعَ نِكاحٍ أو عِتقٍ فَلَمْ يُحرِّم على نفْسِه كلَّ مَا أحلَّ اللهُ له. وحُجَّةُ الكوفيِّين أنَّها طاعةٌ لله، فيلزمُه الوفاءُ بها إنْ قَدِرَ عليها، ومَخرَجُها مَخْرَجُ النَّذرِ كَما يقول مالكٌ في الأَيمان. وَحُجَّةُ الشَّافعيِّ قَوْلُهُ ◙: ((لا نذْرَ فِي معصيةٍ ولا فيما لا يملِكُ ابْنُ آدم)) وإذا لمْ يلزمْهُ النَّذرُ فيما لا يملِكُ فاليمينُ أَوْلَى ألَّا تلزمَه، وأمَّا الطَّلاقُ فِلَأنَّ الله تَعَالَى إِنَّمَا جعلَه فِي كتابِه بعْدَ النِّكاح، فقال تَعَالَى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] و{ثُمَّ}لا تُوجِبُ غيرَ التَّعقيب.
          وأجمعوا أنَّه إِذَا حَلَفَ بعِتْقِ عَبِيدِ غيرِه أنَّه لا يلزمُه شيءٌ مِن ذَلِكَ إِلَّا ابنَ أبي ليلى فإنَّه كان يقولُ: إنْ كان مُوسِرًا بأثمانهم لَزِمَهُ عِتقُهم، ثمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وإنْ حَلَفَ عَلى غيرِه مِثْلَ أنْ يحلِفَ عَلى امرأتِه النَّصرانيَّةِ أنْ تُسْلِمَ، أو حَلَفَ على رَجُلٍ لَيُسْلِفَنَّه مَالًا، أو حَلَفَ عَلى غريمِه لَيَقضِيَنَّهُ حقَّه، فإنْ ضَرَبَ لذلك أجلًا وَكان الدَّيْنُ إلى أَجَلٍ أُخِّرَ إلى الأجَلِ، فإنْ لَمْ يقْضِ، وإلَّا تَلَوَّم لَه على قَدْرِ ما يراه، هذا قولُ ابن القاسم عن مالكٍ، وإنْ لَمْ يضرِبْ لذلك أجلًا فلا يكون مِن امرأتِه مُولِيًا إنْ حَلَفَ بالطَّلاق، ولكن يَتَلَوَّمُ له على قَدْرِ الطُّلْبَةِ إلى المحلوفِ عليه بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عليه.
          وروى ابنُ الماجِشُونِ عَن مالكٍ وغيرِه مِن علماء المدينة: إنْ حَلَفَ بالطَّلاق أو بِالعِتاق على فِعْلِ غيرِه مِثل حَلِفِهِ عَلى فِعْلِ نفْسِه في جميعِ وجوه ذلك، ويدخل عليه الإيلاءُ في حَلِفِه بالطَّلاق.
          فَصْلٌ: وأمَّا حَديثُ عائِشَةَ / في يمينِ الصِّدِّيق ألَّا ينفقَ على مِسْطَحٍ فإنَّما هي يمينٌ في تَرْكِ طاعةٍ وفضيلةٍ في حال غضبٍ، ولا خلاف بين علماء المدينة في وجوب الكَفَّارَةِ عَلى مَن حَلَفَ أنْ يمتنِعَ مِن فِعْلِ الطَّاعةِ إذا رَأى غيرَ مَا حَلَفَ عليه، وَكذلك فَعَلَ الصِّدِّيقُ، كَفَّرَ عن يمينِه، وجمهورُ الفقهاء يُلزِمونَ الغاضبَ الكَفَّارَةَ وَيجعلون غضبَه مؤكِّدًا لِيَمِينِه.
          وقد رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ ☻ أنَّ الغضبانَ يمينُه لغوٌ ولا كفَّارةَ فيها، ورُوِيَ عن مسروقٍ والشَّعبيِّ وجماعةٍ أنَّ الغضبانَ لا يلزمه يمينٌ وَلا طلاقٌ ولا عِتقٌ، واحتجُّوا بقولِه ◙: ((لا طلاقَ في إغلاق)) وَ((لا عِتق قبل مِلكٍ)) وفي حديثِ الأشعريِّين ردٌّ لهذه المقالةِ لأنَّ الشَّارعَ حلَفَ وَهو غاضبٌ ثمَّ قال: (وَاللهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ...) إِلَى آخرِه، وهَذه حجَّةٌ قاطعةٌ، وكذلك فَعَلَ الصِّدِّيقُ، وأمَّا حديثُ: ((لَا طلاق في إغلاق)) فليس بثابتٍ وَلا ممَّا يعارَض به مِثلُ هذه الأحاديث الثَّابتة. كَذا فِي «كتاب ابن بطَّالٍ»
          والحديثُ أخرجه أبو داودَ وابْنُ ماجه واستدركه الحاكمُ وقال: صحيحٌ عَلَى شرط مُسلمٍ، أخرجوه مِن حَدِيْثِ عائِشَةَ ♦. قال الحاكم: وله متابعٌ، فذكره. قال أبو داودَ: أظنُّه فِي الغضبِ، وَقال غيرُه: الإغلاقُ الإكراهُ، والمحفوظ: ((إغلاقٍ)) كما هُوَ لفظُ ابنِ ماجه والحاكم، ولفظُ أبي داودَ: ((غِلَاقٍ)).
          وأمَّا حَدِيْثُ: ((لا عِتْقَ قبل مِلْكٍ)) فهو مِن حَدِيْثِ عَمْرِو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه مرفُوعًا: ((لا طلاق إِلَّا فيما يملكُ ولا عِتْقَ إلا فيما يملكُ ولا بيعَ إلا فيما يملكُ)) رواه أبو داودَ بإسناد صحيحٍ، ورواه الأربعةُ والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد. وقال التِّرمذِيُّ: هُوَ حسنٌ، وهو أحسنُ شيءٍ رُوِيَ فِي الباب، وقال أَيضًا: سألتُ محمَّدًا فقلتُ: أيُّ شيءٍ أصحُّ فِي الطَّلاقِ قبْلَ النِّكاحِ؟ فقال: حَدِيْثُ عَمْرٍو بن شُعَيبٍ هَذَا.
          وتأوَّلَ المدنيُّون والكوفيُّون الإغلاقَ عَلَى الإكراهِ، هَذَا معنى اليمينِ عندَهم، وأمَّا اليمينُ فِي المعصيةِ فليس هَذَا البابُ موضِعَه، وسيأتي عندَ قولِه ◙: ((مَن نذرَ أنْ يعصِيَ اللهَ فلا يَعْصِهِ)).
          قال ابن حزمٍ: واليمينُ فِي الرِّضا والغضبِ وعلى أَنَّ يُطيعَ وعَلَى أَنْ يَعصِيَ، أو عَلَى مَا لا طاعةَ فِيْهِ وَلا معصيةَ، سواءٌ فِي كلِّ مَا ذكرْنَا، إنْ تعمَّدَ الحِنْثَ فِي كلِّ ذَلِكَ فعليه الكَفَّارَةُ، وإنْ لَمْ يتعمَّد الحِنْثَ أو لم يَعْقِد اليمينَ بِقلبِه فَلا كفَّارةَ فِي ذَلِكَ لقولِه تَعَالَى:{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] فالكَفَّارَةُ واجبةٌ فِي كلِّ حِنْثٍ قصدَه المرءُ، وقد اختلف السَّلفُ فِي ذَلِكَ، فرُوِيَ عَن ابنِ عبَّاسٍ أَنَّ لغوَ اليمينِ هُوَ اليمينُ فِي الغضبِ ولا كفَّارة فيها.
          قال ابنُ حزمٍ: وَهو قولٌ لا دليلَ عَلَى صِحَّتِه بل البرهانُ قائمٌ بخلافِه، كَما رُوِّينا مِن طريقِ البُخَاريِّ، فذكر حَدِيْثَ أبي موسى: وافقتُ رَسُوْلَ الله صلعم وَهو غضبانُ، فاستحملناه ((فحلف أَنْ لا يحملنا)) الحَدِيْث، فصحَّ وجوبُ الكَفَّارَة فِي اليمين معَ الغضب. قال تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ}الآية [المائدة:89] وَالحالِفُ فِي الغضبِ معقِّدٌ ليمينِه فعليه الكَفَّارَة.
          وأمَّا اليمينُ فِي المعصيةِ، فرَوى أبو البَخْتَريِّ: أَنَّ رجلًا أضافه رجلٌ فَحَلَفَ أَلَّا يأكُلَ، فحلف الضَّيفُ أَلَّا يأكلَ، فقال ابنُ مسعودٍ: كُلْ، وإنِّي لأظنُّ أُحِبُّ إليك أَنْ تُكفِّر. فلمْ يرَ الكَفَّارَة فِي ذَلِكَ إِلَّا استحبابًا، وعن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه حَلَفَ أَنْ يجلِدَ غلامَه مئةَ جلدةٍ ثمَّ لم يجلدْهُ، فقيل له فِي ذَلِكَ؛ فقال: ألم ترَ مَا صنعتُ؟ تركتُه، فذاك بِذاك. وعن سليمانَ الأحولِ أنَّه قَالَ: مَن حَلَفَ عَلَى مِلْكِ يمينِه فكفَّارتُه أَلَّا يضرِبَه، وهو مع الكَفَّارَةِ حَسَنَةٌ. وعن إبراهيمَ فيمن حَلَفَ أَنْ يضرِبَ مملوكَه فقال: لأنْ يَحْنَثَ أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ يضرِبَه. وقال المُعْتَمِر: حلفتُ أَنْ أضرِبَ مملوكًا لي فنهاني أبي ولم يأمرْنِي بكفَّارةٍ.
          وسُئل طَاوُسٌ عمَّن حلفَ أَلَّا يُعْتِق غلامًا لَه فأعتقه، فقال: أتريد مِن الكَفَّارَةِ أكثرَ مِن هَذَا؟ وعن الشَّعبيِّ: اللَّغوُ فِي اليمينِ: هُوَ كلُّ يمينٍ فِي معصيةٍ فليستْ لها كفَّارةٌ، كمَن يكفِّر للشيطان، وقال عِكْرمةُ: مَن حلفَ عَلَى يمينٍ فرأى غيرَها خيرًا منها فليأتِهِ {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة:89] فِيْهِ نزلت. وَعن مسروقٍ فِي الرَّجُلِ يَحلِفُ أَلَّا يَصِلَ أباه وأمَّه، فقال: كفَّارتُه تركُهُ، فلمَّا بلغ ذَلِكَ ابنَ جُبَيرٍ قَالَ: لم يصنع شيئًا، لِيأْتِ الَّذِي هُوَ خيرٌ ولْيكفِّر عَن يمينِه.
          احتجَّ أهلُ هَذه المقالة بما رُوِّيناهُ مِن حَدِيْثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جدِّه، قَالَ: قال رَسُوْلُ الله صلعم: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَا يَمِينَ لَهُ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى قَطِيعَةِ رَحِمٍ له فَلَا يَمِينَ لَهُ)) ولفظُ أبي داودَ: ((لَا نَذْرَ وَلَا يَمِينَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، وَلَا فِي مَعْصِيَةِ الله، وَلَا فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَدَعْهَا وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَإِنَّ تَرْكَهَا كَفَّارَةٌ)).
          وَمِن حَدِيْثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمرَ / بن الخطَّاب قَالَ: سمعتُ النَّبِيَّ صلعم يقول: ((لَا يَمِينَ عَلَيْكَ وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ الله، وَفِي قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَفِيمَا لَا تَمْلِكُهُ)) ومِن حَدِيْثِ يحيى بن عُبَيد الله عن أبيه عن أبي هُرَيرةَ ☺، مِن عندِ الحجَّاجِ بنِ مِنْهالٍ، قال ◙: ((مَن حَلَفَ على يمينٍ فرأى غيرَها خَيرًا منها فلْيَأْتِ الَّذي هو خيرٌ فهو كفَّارتُها)).
          ومِن طريقِ العُقَيْلِيِّ: حدَّثنا أحمدُ بن عَمْرٍو حدَّثنا إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ حدَّثنا شُعَيبُ بن حيَّانَ بن شُعَيبِ بنِ دِرهمٍ حدَّثنا يزيدُ بن أبي مُعاذٍ عن مُسلمِ بن عَقْرَبٍ عن رَسُوْل الله صلعم قال: ((مَن حَلَفَ على مملوكِه لَيَضْرِبَنَّه، فإنَّ كفَّارتَه أنْ يَدَعَهُ لَه مع كفَّارته خيرٌ)) ومِن طريقِ سعيدِ بن منصورٍ: حدَّثنا حزمُ بن أبي حزمٍ القُطَعِيُّ قَالَ: سمعتُ الحَسَنَ يقول: بَلَغَنَا أَنَّ رسولَ الله صلعم قَالَ: ((لا نَذْرَ لابنِ آدمَ في مالِ غيرِه، ولا يمينَ في معصيةٍ)).
          قال ابنُ حزمٍ: وهَذَا كلُّه لا يَصِحُّ؛ حَدِيْثُ عَمْرِو بن شُعَيبٍ صحيفةٌ، وحَدِيْثُ عُمَرَ منقطعٌ لأنَّ ابن المسيِّب لم يسمع مِن عُمَرَ شيئًا إِلَّا نعيَه النُّعمانَ فقط.
          قلتُ: فِي «المجالسةِ» للدِّيْنَوريِّ: حدَّثنا ابنُ قُتيبةَ حدَّثنا عبدُ الرِّحمن عن عمِّه عبدِ الملِكِ بن قُرَيبٍ عن طَلحةَ بن محمَّدِ بن سعيدِ بن المسيِّب عن أبيه: أَنَّ سعيدًا قَالَ: إنِّي لَفِي الأُغيلمةِ الَّذِين يَجُرُّونَ جَعْدًا إِلَى عُمَرَ بن الخطَّاب حَتَّى ضربَهُ، يعني جعدًا القائل فِيهِ بعض الغزاةِ لِعُمَرَ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولًا                     فِدًى لَكَ مِن أَخِي ثِقَةٍ إِزَارِي
يُعَقِّلُهُنَّ جَعْدَةُ شَيْظَمِيٌّ                     وبِئْسَ مُعَقِّلُ الذَّوْدِ الضَّوارِي
          قال ابنُ حزْمٍ: وحَدِيْثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ فعن يَحيى بن عُبَيدِ الله، وهو ساقطٌ متروكٌ _قلتٌ: قال أبو إسحاقَ الجُوزجَانيُّ: أحاديثُه متقاربةٌ مِن حَدِيْثِ أهلِ الصِّدق، وقال يعقوبُ بن سُفْيانَ الفَسَويُّ: لَا بأس به إِذَا رَوَى عَن ثقةٍ، وقال السَّاجيُّ: يجوز فِي الزُّهد والرِّقاقِ، وقال إسحاقُ بن رَاهَوَيْه: سمعتُ يَحيى بن سعيدٍ القطَّانَ يقول: يَحيى بنُ عُبَيد الله بنِ عَبْدِ الله بن مَوْهَبٍ ثقةٌ، وروى يَحيى عَنْهُ، وقال ابن عَديٍّ: فِي بعضِ مَا يرويه مَا لا يُتابع عليه. قلتُ: وإيرادُه يَحيى وتَرْكُه أباه غيرُ جيِّدٍ؛ لأنَّه ممَّن قال فِيْهِ السَّعديُّ: لا يُعرفُ_ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسلمٌ وغيرُه.
          وأمَّا حَدِيْثُ مُسلم بن عَقربٍ ففيه شُعَيبُ بن حيَّانَ وهو ضعيفٌ، ويزيدُ بن أبي معاذٍ غيرُ معروفٍ. وَحَدِيْثُ الحسن مُرسلٌ. فسقَطَ كلُّ مَا فِي هَذَا الباب.
          قَالَ: ووَجدْنا نصَّ القُرآنِ العظيمِ يوجِبُ الكَفَّارَةَ فِي ذَلِكَ بعمومِه، وَمع ذَلِكَ قَوْلُهُ ◙: ((مَن حَلَفَ عَلَى يمينٍ)) الحَدِيْث. فإنْ قيل: إنَّ هَذَا فيما كَانَ مِن كليهِما خيرٌ إِلَّا أَنْ الأُخرى أكثرُ خيرًا، قُلنا: هذه دعوى، بلْ كلُّ شرٍّ فِي العالَم وكلُّ معصيةٍ فالبرُّ وَالتَّقوى خيرٌ منهما، قال تَعَالَى: {أَصْحَابُ الجنَّة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} [الفرقان:24] وَلا خيرَ فِي جهنَّمَ أصلًا.
          فَصْلٌ ينعطِفُ عَلَى اليمينِ الغَمُوسِ: قال ابنُ عبدِ البَرِّ: وَقد جعل اللهُ الكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الصَّيدِ عَلَى العَمْدِ، وجاءت السُّنَّةُ فيمَن حَلَفَ فرأى غيرَها خيرًا منها أَنْ يُحنِّثَ نَفْسَه ثمَّ يُكَفِّر، وهَذَا قد تعمَّدَ الحِنْثَ فأُمِرَ بالكَفَّارَةِ، ومِن التَّابعين القائلين بأنَّ المتعمِّد للكذبِ فِي يمينِه يكفِّرُ: الحكمُ بن عُتَيبةَ وعَطَاءُ بن أبي ربَاحٍ، قال شُعْبةُ: سألتُ الحكمَ وحمَّادًا عن ذَلِكَ فقالا: ليس لها كفَّارةٌ، قال الحَكَمُ: والكَفَّارَةُ خيرٌ.
          وذكر ابنُ أبي شَيْبةَ عَن حفص بن غياثٍ عَن الحَجَّاجِ عَن عَطَاءٍ: يُكفِّر. وقد أسلفنا ذَلِكَ عَنْهُ، وفي «كتاب ابن هُبَيرةَ»: قال الشَّافعيُّ وأحمدُ فِي الرِّواية الأُخرى: يكفِّر، وفي «المحلَّى» عن مَعْمَرٍ فِي الرَّجُلِ يحلِفُ عَلَى أَمرٍ يتعمَّدُه كاذبًا: واللهِ لقدْ فعلتُ ولم يفعلْ، وواللهِ مَا فعلتُ وقد فَعَلَ، قَالَ: أَحَبُّ إليَّ أَنْ يكفِّرَ.
          وَعن ابنِ مسعودٍ: كنَّا نَعُدُّ مِن الذَّنبِ الَّذِي لا كفَّارةَ له اليمينَ الغَمُوسَ. وعن إبراهيمَ وحمَّادِ بن أبي سُليمانَ وَالحسنِ: هي أعظمُ مِن أَنْ تُكفَّرَ، محتجِّين بما رَوَى أبو ذرٍّ مرفُوعًا: ((ثلاثةٌ لا يكلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا يزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ)) فَذَكَرَ منهم ((المنفقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذبِ)).
          وسَلَفَ حَدِيْثُ عَبْدِ الله بن عمرٍو فِي عدِّ اليمينِ الغَمُوس مِن الكبائر، ورَوَى ابنُ أبي عاصمٍ مِن حَدِيْث محمَّدِ بن زيدِ بن المهاجِرِ بْن قُنْفُدٍ عَن عَبْدِ الله بن أبي أُمَامةَ عَن أبيه عن عَبْدِ الله بنِ أُنَيْسٍ يرفَعُهُ: ((مَن حَلَفَ بالله عَلَى يمينِ صَبْرٍ فيُدخِلُ فيها مِثْلَ جناحَ بعوضةٍ إِلَّا كَانَت نُكْتةً فِي قلبِه إِلَى يومِ القيامة)) ومِن حَدِيْثِ عبدِ السَّلامِ بْنِ عبدِ الحميدِ السَّكُونيِّ: حدَّثنا أبي، عن عَمْرِو بن قيسٍ، عَن واثِلَةَ يرفعُه: ((اليمين الغَمُوس تفتح الدِّيار)) وَهي الحَلِفُ على يمينٍ فاجرةٍ صَبْرًا ليقتطِعَ بها مَال امرئٍ مسلمٍ.
          قال ابنُ أبي عاصمٍ: وفَي الباب عن وائل بْن حُجْرٍ وسعيدِ بنِ زيدٍ وأُبيٍّ وأَبي أُمامةَ الحِجَازيِّ _قَالَ: ومالكٌ أبو أُمَامةَ الحِمصيُّ_ والحارثِ بن البَرْصَاءِ وَمَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ وأبي سُوَدٍ وأَبِي هُرَيْرَةَ وعَديِّ بن عَميرةَ.
          قال ابنُ حزمٍ: وعن عِمْرانَ بن حُصَينٍ يرفعُه: ((مَن حَلَفَ عَلَى يمينٍ مصبورةٍ كاذبًا فليتبوَّأ مقعدَه مِن النَّار)) وعن ابنِ عُمَرَ مِن طريق أبي الجَهْم: حدَّثنا يوسف بن الضَّحَّاكِ حدَّثنا موسى بن إسماعيلَ حدَّثنا حمَّاد بن سَلَمةَ عَن ثابتٍ عَنْهُ: أنَّه ◙ قال لرجلٍ: ((فعلتَ كَذا وكَذا)) قَالَ: لا، وَاللهِ الَّذِي لا إله إِلَّا هُوَ مَا فعلتُ. فجاء جبريل فقال: بل فعلَ، ولكنَّ اللهَ غفرَ له بالإخلاص.
          ورواه أبو داودَ مِن طريقِ موسى بن إسماعيلَ عن حمَّادِ بن سَلَمةَ عن عطاءِ بنِ السَّائبِ عن أبي يَحيى عَن ابنِ عبَّاسٍ ☻، وَكذا رُوِّيناه مِن طريقِ ابنِ أبي شَيْبةَ عَن وكيعٍ عن الثَّوريِّ عن عَطَاءِ بن السَّائبِ عن أبي يَحيى عَن ابنِ عبَّاسٍ، فإنْ لَمْ يكنْ أخطأَ فِيْهِ يوسُفُ بنُ الضَّحاكِ فهو حَدِيْثٌ جَيِّدٌ و إِلَّا فهو حديثٌ ضعيفٌ.
          قلتُ: يدورُ عَلَى عطاءٍ، أخرجه النَّسائيُّ أَيضًا عَن هنَّادٍ عن أبي الأحوصَ وَعن محمَّدِ بن إسماعيلَ بن سَمُرةَ عن وكيعٍ عن سُفْيانَ، ثلاثتُهم عن عطاءٍ عن أبي يحيى به، ولَمَّا رواه البُخَاريُّ فِي «تاريخه» أَيضًا سمَّى أبا يحيى زيادًا المكِّيَّ، وَعرَّفه بولاءِ قيس بن مَخْرَمةَ، وهو ردٌّ لِمَا ذكره ابنُ عساكرَ: أبو يحيى هَذَا مِصدَع المُعَرْقَب. ورواه ابنُ أبي عاصمٍ مِن حَدِيْثِ سُفيانَ عن عَطَاءٍ عَن أبي يَحيى فَلا وجه لِتَردُّدِ ابْنِ حزمٍ، ثمَّ إنَّ عطاءً رواه عندَ ابنِ أبي عاصمٍ عَن أبي البَخْتَريِّ عَن عَبيدَةَ السَّلمانيِّ عن عَبْدِ الله بن الزُّبير بنحوِه، وهو دالٌّ عَلَى عَدَمِ ضَبْطِ عَطَاءٍ.
          قال ابنُ حزمٍ: قالوا: لم يأمرْهُ بكفَّارةٍ، وَقالوا: إِنَّمَا الكَفَّارَةُ فيما حَلفَ فِيْهِ فِي المستأنَفِ، قالوا: وقد قال تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] قالوا: وَحِفْظُها إِنَّمَا يكون بعد مواقعتِها.
          قَالَ: وَهَذَا كلُّه لا حُجَّةَ لهم فِيْهِ لأنَّ مَا ذكروا مِن الأحاديثِ ليس فِي شيءٍ مِنها إسقاطُ الكَفَّارَةِ وَلا إيجابُها، كَما أنَّه ليس فيها ذِكرٌ للتَّوبةِ أصْلًا وإنَّما فيها الوَعيدُ الشَّديدُ بِالعقابِ.
          قال ابنُ حزمٍ: وبالحِسِّ وَالمشاهدةِ نَدري نحنُ وَمَن خالفَنا أَنَّ الحالفَ باليمينِ الغَمُوسِ لا يُسمَّى مُسَتَلِجًّا فِي أهلِه، فَبَطَلَ احتجاجُهم فِي إسقاطِهم الكَفَّارَةَ. وأمَّا حَدِيْثُ حمَّادِ بْن سلَمةَ وَسُفيانَ فطريقُ سُفيانَ لا يصحُّ، ولَئِنْ صحَّتْ طريقُ حمَّادٍ فليس فيها لإسقاطِ الكَفَّارَةِ ذِكرٌ، وإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الله قدْ غَفَرَ له بالإخلاصِ فقط، وَليس كلُّ شريعةٍ تُوجَدُ فِي كلِّ حَدِيْثٍ، وَلا شكَّ فِي أنَّه مأمورٌ بالتَّوبةِ مِن تَعَمُّدِ الحَلِفِ عَلَى الكذبِ، وَليس فِي الخبرِ لها ذِكرٌ، فإنْ كَانَ سكوتُه صلعم عَن ذِكْرِ الكَفَّارَةِ حُجَّةً فِي سقوطِها، فسكوتُه عَن ذِكْرِ التَّوبةِ حُجَّةٌ فِي سقوطِها وَلا بُدَّ، وهمْ لا يقولون بهذا.
          فإنْ قالوا: / قد أَمَرَ بالتَّوبةِ فِي منصوصٍ آخَرَ: قلنا: وَكذلك أَمَرَ بالكَفَّارَةِ فِي نُصوصٍ أُخَرَ.
          فإنِ احتجُّوا بقولِه: (لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ) الحَدِيْث. قلنا: لا حُجَّةَ لكم فِيهِ، لأنَّ الكَفَّارَة عندنا وَعندهم تجِبُ فِي غيرِ الصُّورة، وَهو مَن حَلَفَ عَلَى يمينٍ فرأَى غيرَها شَرًّا منها فَفَعَلَ الَّذِي هُوَ شرٌّ، فإنَّ الكَفَّارَةَ عِندَنا وَعندَهم واجبةٌ عليه فِي ذَلِكَ.
          قَالَ: وَأمَّا قولهم هِي أعظم مِن أَنَّ تُكَفَّر، فمِن أين لهم هَذَا؟ وَأين وجدوه؟ وهل هَذَا إِلَّا تَحَكُّمٌ منهم، فَيُعارضون بأنْ يُقال لهم: كلُّ ذنبٍ عظيمٍ كَانَ صاحبُه أحوجَ إِلَى الكَفَّارَةِ، وَكانت أوجَبَ عليه منها فيما ليس ذنبًا أصلًا، أو فيما هُوَ صغيرٌ مِن الذُّنوب، هَذَا المتعمِّد للفِطرِ فِي رمضانَ نحنُ وهم متَّفقون عَلَى أَنَّ الكَفَّارَةَ تجبُ عليه ولعلَّه أعظمُ إثمًا مِن اليمينِ الغَمُوس، وهم يَرَوْنَ الكَفَّارَة عَلَى مَن تعمَّدَ إفسادَ حجِّه بالهَدْيِ، ولعلَّه أعظمُ إثمًا مِن حالفٍ بيمينٍ غَمُوسٍ.
          وأعجبُ مِن هَذَا قولُهم فيمَن حَلَفَ أَلَّا يقتُلَ مؤمنًا متعمِّدًا، وأن يُصَلِّيَ اليومَ الصَّلاةَ المفروضةَ، وألَّا يعمَلَ بالرِّبا، وألَّا يزنيَ، ثمَّ لمْ يُصَلِّ فِي يومِه ذَلِكَ وزَنَى وقَتَلَ النَّفْسَ الَّتِي حرَّمَ اللهُ وأربى، فإنَّ عليه الكَفَّارَةَ فِي أيمانِه تلك، فيالله وللمسلمين أيُّما أعظمُ إثمًا؟
          فإنْ موَّهُوا بأنَّ قولَهم رُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ ☺ ولا يُعرفُ له مِن الصَّحابة مخالفٌ. قلنا: هي روايةٌ منقطعةٌ لا تَصِحُّ لأنَّ أبا العاليةِ لم يَلْقَ ابنَ مسعودٍ وَلا أمثالَه مِن الصَّحابةِ، إنَّما أدركَ أصاغِرَ الصَّحابة كابنِ عبَّاسٍ وشبهه، وَقد خالفوا ابنَ مسعودٍ فِي قَوْلِه: إنَّ مَن حَلَفَ بالقرآنِ أو بسورةٍ منه فعليه بكلِّ آيةٍ كفَّارةٌ، وَلا يُعرَفُ لَه فِي ذَلِكَ مخالفٌ مِن الصَّحابةِ.
          قلت: قد ذَكَرَ البُخَاريُّ فِي «تاريخِه الكبير» قَالَ: قالَ الأنْصاريُّ: عَن زائدةَ عن هِشَامٍ عن حَفْصةَ عن أبي العاليةِ أنَّه سَمِعَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ. وَقال مُعاذُ بنُ أسدٍ: حدَّثنا الفضلُ بن موسى أخبرنا الحسينُ بنُ واقدٍ عن ربيعِ بنِ أَنَسٍ عَن أبي العاليةِ قَالَ: دخلتُ عَلَى أبي بكرٍ الصِّدِّيقَ فأَكَلَ لَحْمًا وَلم يتوضَّأ. حدَّثنا محمَّد بن يَحيى حدَّثنا سَلْمُ بن قُتَيبةَ عن أبي خَلْدَةَ قَالَ: سألتُ أبا العالية، هل رأيتَ رَسُوْلَ الله صلعم؟ قَالَ: أسلمتُ فِي عامين مِن بعدِ موتِه.
          وقال آدمُ: حدَّثنا شُعْبةُ عَن قَتَادةَ قال: سمعتُ أَبَا العاليةِ _وكَانَ أدركَ عَلِيًّا_ قَالَ: قال عليٌّ: القُضاةُ ثلاثةٌ. وقال فِي «تاريخِه الصَّغير»: صَحِبَ عُمَرَ بنَ الخطَّاب وسمعَ عليًّا، وَقال العَسكريُّ فِي «الصَّحابة»: رُوِيَ أنَّه دَخَلَ عَلَى أبي بكرٍ، وقال ابنُ سعْدٍ فِي «طبقاته» فِي الطَّبقةِ الأُولى مِن أَهْل البصرة: سَمِعَ مِن عمرَ وأُبيَّ بن كعبٍ وغيرهما.
          وقال العِجليُّ: هُوَ مِن كبار التَّابعين، وعند الآجُرِّيِّ: قال أبو داودَ: سمِعَ مِن عُمَرَ وعُثمانَ وقَالَ: رأيتُ أبا بكرٍ، وفي «طبقات القُرَّاء» للدَّانيِّ: قال أبو العالية: قرأتُ القُرآنَ العظيمَ عَلَى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ ثلاثَ مرَّاتٍ، وقال أبو عُمَرَ فِي «الاستغناء»: هُوَ أحدُ كبارِ التَّابعين بالبصرةِ، رَوَى عن أبي بكرٍ وعُمَرَ، واختُلِفَ فِي سماعِه منهما والصَّحيحُ أنَّه سمع منهما، .
          وفي «طبقات ابنِ جريرٍ»: قُبِضَ رَسُوْلُ الله صلعم وهَو ابنُ أربعِ سنين. وذَكَرَهُ أبو نُعيمٍ الدُّكَيني فِي «تاريخِه» فِي جملةِ الرُّواةِ عن عليٍّ، والعجبُ أَنَّ ابنَ حَزْمٍ نفْسَه ذَكَرَهُ فِي الطَّبقةِ الأولى مِن قرَّاء أَهْلِ البَصرةِ وقال: أبو العاليةِ رُفَيْعٌ قَرَأَ القُرآن عَلَى أميرِ المؤمنينَ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ ثلاثَ مرَّاتٍ.
          واعلمْ أَنَّ لفْظَ ابنِ مسعودٍ: كنَّا نَعُدُّ مِن الذَّنبِ الَّذِي لا كفَّارةَ له اليمينَ الغَمُوس. كذا ذكره آدمُ بن أبي إياسٍ فِي «كتاب شُعبة»: حدَّثنا أبو التَّيَّاح قَالَ: سمعتُ رُفَيْعًا أبا العاليةِ يقولُ: قال ابنُ مسعودٍ فَذَكَرَهُ. وَفي هَذَا التَّصريحِ مَا يُزيلُ توهُّمًا قَد يتوهَّمُهُ مُتَوهِّمٌ أَنَّ رُفَيعًا أبا العالية البَرَّاءُ زِيَادُ بنُ فَيْرُوز.