التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إن حلف أن لا يشرب نبيذًا فشرب طلاءً أو سكرًا أو عصيرًا

          ░21▒ بَابٌ إِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَشْرَبَ نَبِيذًا فَشَرِبَ طِلاءً، أَوْ سَكَرًا، أَوْ عَصِيرًا، لَمْ يَحْنَثْ في قَوْلِ
          بَعْضِ النَّاس، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِأَنْبِذَةٍ عِنْدَهُ
          6685- ذَكَرَ فِيْهِ حَدِيْثَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ☺ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ صلعم أَعْرَسَ، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلعم لِعُرْسِهِ، فَكَانَتِ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ؟ قَالَ: أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ.
          6686- وَحَدِيْثَ سَوْدَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ♦ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْهَا قَالَتْ: (مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَا زِلْنَا نَنْبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَتْ شَنًّا).
          الشَّرح: أمَّا ترجمةُ البابِ فَلا شكَّ أنَّه إِذَا كَانَ الطِّلاء وَالسَّكَر يُسْكِرانِ فَيَحْنَثُ به.
          و(بَعْضِ النَّاسِ) المرادُ بِه أبو حَنِيفةَ ☺ فإنَّه زَعَم أنَّ الطِّلَاءَ والعَصِيرَ ليسا بِنَبيذٍ في الحقيقةِ، وإنَّما النَّبيذُ ما يُنبذ في الماء وأُنْقِعَ فيه، ومنه سُمِّيَ المنبوذُ مَنْبُوذًا لأنَّه نُبِذَ أي طُرِحَ.
          ومعنى قولِه: (سَكَرًا) أَي ما يُسكِرُ ممَّا يُعصَرُ وَلا يُنبَذُ، ويعني بقولِه: (أَوْ عَصِيرًا) مَا كان حديثَ العَصْرِ مِن العِنَبِ ولم يبلُغْ حدَّ السَّكَرِ، وبالطِّلَاءِ ما طُبِخَ مِن عصيرِ العِنَبِ حتَّى بَلَغَ إلى مَا لا يُسْكِرُ، فَلا يَحْنَثُ عنده في شُرْبِ شيءٍ مِن هَذه الثَّلاثةِ لأنَّها لم تُنبَذْ، وإنَّما يَحْنَثُ عندَه بِشُرْبِ مَا نُبِذَ في الماءِ مِن غيرِ العِنَبِ سواءٌ أسْكَرَ أو لم يُسْكِرْ.
          قال المهلَّبُ: والَّذي عليه جُمهورُ الفقهاء أنَّه إذا حَلَفَ أَلَّا يشرَبَ النَّبيذَ بعينِه دون سائرِ المشروبات أنَّه لا يَحْنَثُ بِشُرْبِ العصيرِ والطَّبيخِ وَشبهِه، وإنْ كان إنَّما حَلَفَ عَلى النَّبيذ خشيةً منه لِمَا يكونُ مِن السُّكْرِ وفسادِ العقل كان حانِثًا في كلِّ ما يُشرَبُ ممَّا يكون فيه المعنى الَّذي حَلَفَ عليه، ويجوز أن تُسمَّى سائرُ الأشربةِ مِن الطَّبيخِ والعَصِيرِ نَبِيذًا لمُشَابهتِهما له في المعنى، ومَن حَلَفَ عندهم ألَّا يشربَ شرابًا وَلا نيَّةَ له، فأيُّ شرابٍ شَرِبَه ممَّا يقعُ عليه اسم شرابٍ فهو حانثٌ.
          فَصْلٌ: ووجْهُ تعلُّقِ البُخَاريِّ مِن حَديثِ سهْلٍ في الرَّدَّ عَلى أبي حنيفةَ هُو أنَّ سهلًا إنَّما عرَّف أصحابِه أنَّه لم يسقِ الشَّارع إلَّا نبيذًا قَريبَ العهدِ بالانتباذِ ممَّا يحلُّ شُربُه، أَلَا تَرَى قولَه: (أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِي تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ، حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ، فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ) وهكذا كان يُنبَذُ له ◙ ليلًا ويشربُه غُدْوةً، ويُنبَذُ له غُدْوَةً ويشربُه عَشِيَّةً، وَلو كان بعيد العَهدِ بالانتباذِ ممَّا بَلَغَ حَدَّ السُّكْرِ لم يَجُزْ أنْ يَسقِيَهُ ◙. فَفُهِمَ مِن هذا أنَّ مَا بَلَغَ حدَّ السُّكْرِ مِن الأنبذةِ حرامٌ كالمسْكِرِ مِن عصيرِ العِنَب، وأنَّ مَن شرب مُسكِرًا مِن أيِّ نوعٍ كَانَ سواءٌ كان مُعتصَرًا أو مُنتبَذًا فإنَّه يَحْنَثُ لاجتماعِهما في حُدوثِ السُّكْرِ وكونِها كلِّها خمرًا.
          فَصْلٌ: ووجهُ استدلالِه مِن حديثِ سَوْدةَ ♦ أنَّهم حبسوا مَسْك الشاةِ للانتباذِ فيه الَّذي يجوزُ لهم شُربُه غير المُسْكِر، ووقع عليه اسمُ نبيذٍ، ولو ذَكَرَ حديثَ أَنَسٍ حين كسروا الجِرَار مِن نبيذِ التَّمر كان أقربَ للتعلُّقِ وَأوضح للمعنى كما نبَّه عليه ابْنُ بطَّالٍ؛ لأنَّهم لم يكسِرُوا جِرارَ نبيذِ التَّمرِ، وهم القُدوةُ في اللُّغَةِ والحُجَّةُ فيها، إلَّا أنَّ معنى نَبِيذِ التَّمرِ المُسْكِرِ في معنى عصيرِ العِنبِ المسكِرِ في التَّحريمِ لأنَّهم كانوا أتْقى لله مِن أنْ يُتلِفُوا نِعَمَ اللهِ ويُهْرِيْقُوها استخفافًا بها، وَقد نهى الشَّارعُ عن إضاعةِ المالِ، وَلو كان المسْكِرُ غيرَ خمرٍ لجازَ مِلكُه وبيعُه وشُربُه وَهِبَتُه، وَكانت إراقتُه مِن الفَسادِ في الأرضِ.
          فَصْلٌ: حَدِيْثُ سَوْدةَ بنتِ زَمْعَةَ فِي البابِ مِن أفرادِ البُخَاريِّ كَحديثِ ابن عبَّاسٍ: ((إِذَا دُبِغَ الإهابُ فقد طهُر)) فإنَّه مِن أفراد مُسلمٍ، أمَّا حَدِيْثُ ابنِ عبَّاسٍ عَن ميمونَةَ ♥: مَرَّ ◙ بشاةٍ لها فقال: ((أَلَا انتفعتُم بجِلْدِها)) فمِن المتَّفَقِ عليه لَا كما زعمَه خَلَفٌ في «أطرافِه» وتبعه عليه الدِّمياطِيُّ فاحذَرْهُ.
          فَصْلٌ: الطِّلَاءُ بكسْرِ الطَّاءِ والمدِّ، قال أبو عبد الملكِ والدَّاوديُّ: هُوَ أَنْ يُطبَخَ عَصِيرُ العِنَبِ حَتَّى يذهبَ ثُلُثَاهُ وَيبقَى ثُلُثُه، والَّذي قاله أَهْلُ اللُّغةِ: إنَّه جنسٌ مِن الشَّراب. قال ابنُ فارسٍ: ويُقال: إنَّه اسمٌ مِن أسماء الخمرِ.
          والسَّكَرُ بفتْحِ السِّينِ والكافِ، قَالَ الجَوهَرِيُّ: هُوَ نبيذُ التَّمْرِ، وذَكَرَ قولَه تَعَالَى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل:67] وقال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: هُوَ مَا حَرُمَ.
          فعلى مَن يقول: الطِّلاءُ والسَّكَرُ مُسكران يصحُّ مَا تقدَّمَ ممَّن يقول: هما نبيذٌ، ولا يصحُّ ذَلِكَ فِي السَّكَرِ لأنَّه نبيذٌ ويَصِحُّ فِي الطِّلاءِ لأنَّه لا ينطلق ذَلِكَ عَليه، وقد قال ابنُ حبيبٍ: مَن حَلَفَ لا يشَرَبُ نبيذًا أنَّه يَحْنَثُ بما يشرَبُ منه وإنْ اختلفتْ عناصرُه، وهَذَا بيِّنٌ أنَّه يَحْنَثُ بكلِّ مَا وقع عليه اسمُ نبيذٍ، كَانَ نبيذًا تمرًا أو غيرَه مِن سائرِ الأنبِذَةِ.
          وفي «كتاب محمَّدٍ»: إنْ حَلَف لا يشربُ خمرًا فما شَرِبَ مِن الأنبذةِ الَّتِي يُسكِرُ كثيرُها حَنِثَ، ولا ينفعُه أَنْ لو حَلَف أَلَّا يشربَ خمرًا بعينِها، وكَانَ ابن القاسم قديمًا يقبَلُ نِيَّتَهُ إِذَا جاء مُستفتيًا وليس بشيءٍ، وَلو كَانَت النِّيَّةُ تنفعُه / لَنَفَعَهُ لَفْظُهُ بإفصاحِه الخمرَ بعينِها. قال مالكٌ: وَكذلك لَو حَلَف أَلَّا يشربَ الخمرَ وَقَالَ: أردتُ خَمْرَ العِنَبِ، وقاله ابنُ القاسم ونحنُ نقولُه، حَتَّى يقولَ: خمرَ العِنَبِ إفصاحًا ولفظًا فَيُدَيَّنُ فِي يمينِه.
          وقال فِي «العُتبيَّة»: إِذَا حَلَفَ أَلَّا يَشْرَبَ خمرًا فشرِبَ طِلاءً، فإنْ كَانَ يُسْكِرُ كثيرُه حَنِثَ إذْ لا يُخرِجُه مِن اسمِ الخمرِ، غيرَ طبيخٍ تعوَّدَ به لا يُسكِرُ، فأمَّا إنْ شَرِبَ غيرَه ممَّا يُسكِرُ فَيُنَوَّى فِي الفُتيا لَا فِي القضاءِ.
          وقال سُحنونُ: لا حِنثَ عليه فِي هَذَا كلِّه وَلو لم يكن لَه نيَّةٌ، لأنَّ اليمينَ فِي هَذَا إِنَّمَا هي فِي الخمر بعينِها.
          فَصْلٌ: معنى (أَعْرَسَ) فِي حَدِيْثِ سهْلٍ: اتَّخذ عِرْسًا، وأَعْرَسَ بأهلِه إِذَا بَنَى بها. والعَرُوس نعتٌ يستوي فِيهِ الرَّجُلُ والمرأةُ مَا داما فِي إعراسِهما، يُقَالُ: رجلٌ عَرُوسٌ فِي رِجالٍ عُرُسٍ، وامرأةٌ عَرُوسٌ فِي نساءٍ عَرَائِسٍ.
          والتَّوْرٌ _بفتْحِ المثنَّاة فوق_ إناءٌ يُشرَبُ فِيْهِ. وأَبُو أُسَيْدٍ بِضَمِّ الهمزةِ. كما سلَفَ شرْحُ الحَدِيْثِ واضحًا فِي الأنْكحةِ.
          فَصْلٌ: المَسْكُ فِي حَدِيْثِ سَودَةَ بفتْحِ الميمِ وسكون السِّين. والشَّنُّ _بفتْحِ الشِّينِ_ القِرْبَةُ الباليةُ، والشَّنَّةُ أَيضًا وكأنَّها صغيرةٌ، والجَمعُ الشِّنَانُ. ونَبَذَ ثُلاثيٌّ بفتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الباء، قال تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] قَالَ الجَوهَرِيُّ: والعامَّة تقولُ: أَنْبَذْتُ.