شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب الوقف كيف يكتب؟

          ░28▒ باب: الْوَقْفِ وَكَيْفَ يُكْتَبُ
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: أَصَابَ عُمَرُ أرضًا بخيبر فَأَتَى النَّبيَّ صلعم، فَقَالَ: أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شَئْتَ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ عُمَرُ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلا تُوهَبُ وَلا تُورَثُ: في الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وفي سَبِيلِ اللهِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ، لا جُنَاحَ على مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ. [خ¦2772]
          هذا الحديث أصلٌ في إجازة الحبس والوقف، وهو قول أهل المدينة والبصرة ومكَّة والشام، والشَّعبيِّ من أهل العراق، وبه قال أبو يوسف ومحمَّد بن الحسن والشافعيُّ، وقال أبو حنيفة وزفر: الحبس باطلٌ، ولا يخرج عن ملكِ الذي أوقفه ويرثه ورثته، ولا يلزم الوقف عنده إلَّا أن يحكم به الحاكم وينفذه أو يوصي به بعد موته، وإذا أوصى به اعتبر من الثلث، فإن حمله الثلث جاز وإلَّا ردَّ.
          وحجَّة الجماعة قوله صلعم لعمر: (إِنْ شِئتَ حَبَّسْتَ أَصلَهَا) وهذا يقتضي أنَّ الشيء إذا حُبِّس صار محبوسًا ممنوعًا منه، لا يجوز الرجوع فيه؛ لأنَّ هذا حقيقة الحبس، ألا ترى أنَّ عمر لمَّا أراد التقرُّب بفعل ذلك رجع في صفته إلى بيان النبيِّ صلعم وذلك قوله: (فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ. أَنَّها(1) لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلاَ تُوهَبُ وَلاَ تُورَثُ). وعند المخالف أنَّ(2) هذا باطلٌ، وليس في الشريعة صدقةٌ بهذه الصفة.
          وأيضًا فإنَّ المسألة إجماعٌ من الصحابة، وذلك أنَّ أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرًا، كلُّهم أوقفوا الوقوف، وأوقافهم بمكَّة والمدينة معروفةٌ مشهورةٌ.
          واحتجَّ أبو حنيفة بما رواه عطاءٌ عن ابن المسيِّب قال: سألت شريحًا عن رجلٍ جعل داره حبسًا على الآخر فالآخر من ولده؟ فقال: لا حبس على فرائض الله. قالوا: فهذا شريحٌ قاضي عمر وعثمان وعليٍّ والخلفاء الراشدين حكم بذلك، واحتجَّ أيضًا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبَّاسٍ قال: سمعت النبيَّ صلعم يقول بعد ما نزلت سورة النساء، وأنزل الله فيها الفرائض: ((نُهيَ / عن الحبس)).
          قال الطبريُّ: ولا حجة له في قول شريح؛ لأنَّ من تصدَّق بماله في صحَّة بدنه فقد زال ملكه عنه، ومحالٌ أن يقال لما زال ملكه عنه قبل موته بزمانٍ حبسه عن فرائض الله، ولو كان حابسًا عن فرائض الله من أزال ملكه عمَّا ملكه لم يجز لأحدٍ التصرُّف في ماله، وفي إجماع الأمَّة أنَّ ذلك ليس كذلك ما ينبئ عن فساد تأويل من تأوَّل قول شريحٍ أنَّه بمعنى إبطال الصدقات المحرَّمات، وثبت(3) أنَّ الحبس عن فرائض الله إنَّما هو لما يملكه في حال موته، فيبطل حبسه كما قال شريحٌ، ويعود ميراثًا بين ورثته.
          ومثال ذلك أن يحبس مالًا في حياته على إنسانٍ بعينه فيجعل له غلَّته دون رقبته، أو على قومٍ بأعيانهم، ولا يجعل(4) لحبسه مرجعًا في السبيل الذي(5) لا يفقد أهلها بحالٍ، فإنَّ ذلك يكون حبسًا عن(6) فرائض الله، وليس في حديث عطاءٍ أنَّ الرجل جعل لحبسه مرجعًا بعد انقراض ورثته، ولا أخرجها من يده إلى من حبَّسها عليه ولا إلى قابضٍ حتَّى تحدث به الوفاة، فكانت لا شكَّ أنَّ صاحبها هلك وهي في ملكه ولورثته بعد وفاته، فيكون هذا من الحبس عن فرائض الله، إذ كانت الصدقة لا تتمُّ لمن تُصدِّق بها عليه إلا بقبضه لها.
          وأمَّا الصدقة التي أمضاها(7) المصَّدِّق(8) بها في حياته على ما أذن الله به على لسان رسوله صلعم وعمل به الأئمَّة الراشدون فليس من الحبس عن فرائض الله(9)، ولا حجَّة في قول شريحٍ ولا أحدٍ مع مخالفة السنَّة وعمل أئمَّة الصحابة الذين هم الحجَّة على جميع الخلق.
          ويقال للمحتجِّ بقول شريحٍ في إبطال الصدقات المحرَّمات في الصحَّة: إنَّ شريحًا لم يقل: لا حبس عن فرائض الله في الصحَّة. فكيف وجب أن تكون صدقة المتصدِّق في حال الصحَّة من الحبس عن فرائض الله ولا يجب أن تكون صدقته في مرضه الذي يموت فيه، أو في وصيَّته من الحبس عن فرائض الله؟ ومعنى الصدقتين واحدٌ، وما البرهان على أنَّ التي أجزت هي الجائزة والتي أبطلت هي الباطلة؟
          فإن قال: إنَّ للرجل في مرضه إخراج ثلث ماله فيما شاء(10) ولا اعتراض للورثة عليه فيه.
          قيل: وكذلك له في حال صحَّته إخراج جميع ماله فيما شاء(11) وليس للورثة عليه سبيلٌ، ولمَّا كان ما يفعله(12) الرجل في ثلثه لا يدخل في قوله صلعم: ((لَا حبس عن فرائض الله)) عند الجميع كان(13) ما يفعله الرجل في صحَّته أولى بذلك لمن أنصف.
          قال ابن القصَّار: وأمَّا حديث ابن عبَّاسٍ فرواه ابن لهيعة، وهو رجلٌ اختلط عقله في آخر عمره وأخوه غير معروفٍ فلا حجَّة فيه، وقد تأوَّل الناس في حديث ابن عبَّاسٍ تأويلًا هو أولى من تأويل شريحٍ، وذلك أنَّ معنى قوله: ((لا حبس عن فرائض الله)) منع ما كان أهل الجاهليَّة يفعلونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كأن يحبسون ما يجعلونه كذلك ولا يورِّثونه أحدًا، فلمَّا نزلت آية المواريث قال رسول الله: ((لا حبس...)).
          فإن قيل: هذا تأويلٌ فاسدٌ؛ لأنَّ قوله: (لا حبس) يقتضي نفي حبسٍ فُعِل في الإسلام، وفعل أهل الجاهليَّة لم يفعل في الإسلام.
          قيل: هي(14) نفيٌ لما كانوا يفعلونه وهم كفَّارٌ بعد الإسلام.
          فإن قيل: كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف من ملك أربابها، إلَّا(15) إلى ملك مالكٍ؟ قال الطحاويُّ: يقال لهم: وما ينكر هذا وقد اتَّفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدًا للمسلمين ويخلِّي بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملكٍ إلى غير ملك مالكٍ(16) ولكن إلى الله تعالى، وكذلك السقايات والجسور والقناطر فما ألزمت مخالفك في حجَّتك عليه يلزمك في هذا كلِّه.


[1] في (ص): ((أنه)).
[2] قوله: ((أن)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((فثبت)).
[4] في (ص): ((يجعلوا)).
[5] في (ص): ((السبل التي)).
[6] في (ص): ((على)).
[7] في (ص): ((أمضى)).
[8] في (ص): ((المصدق)).
[9] قوله: ((الله)) لفظ الجلالة ليس في (ز) والمثبت من (ص).
[10] في (ص): ((بينا)).
[11] في (ص): ((بيَّنا)).
[12] في (ص): ((يجعله)).
[13] زاد في (ص): ((جميع)).
[14] في (ص): ((هو)).
[15] في (ص): ((لا)).
[16] قوله: ((مالك)) ليس في (ص).