شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: لا وصية لوارث

          ░6▒ باب: لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَالُ لِلْوَلَدِ وَكَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ، فَنَسَخَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَحَبَّ، فَجَعَلَ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ، وَجَعَلَ لِلأبَوَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسَ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَالرُّبُعَ، وَلِلزَّوْجِ الشَّطْرَ وَالرُّبُعَ. [خ¦2747]
          أجمع العلماء على أنَّ الوصيَّة للوارث لا تجوز. قال ابن المنذر: وقد روي عن النبيِّ صلعم مثل ما اتَّفق عليه من ذلك، حدَّثنا محمَّد بن عليٍّ، حدَّثنا سعيد بن منصورٍ، حدَّثنا إسماعيل بن عياشٍ، حدَّثنا شرحبيل بن مسلمٍ الخولانيُّ قال: سمعت أبا أمامة الباهليَّ يقول: ((خطبنا النبيُّ صلعم في حجَّة الوداع فقال: إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيَّة لوارث)) وذكر الحديث.
          وروى قَتادة عن شهر بن حَوْشَبٍ، عن عبد الرحمن بن غنمٍ عن عَمْرو بن خارجة(1) سمعت النبي صلعم في خطبته، بمثله.
          قال ابن المنذر(2): واختلفوا إذا أوصى لبعض ورثته فأجازه بعضهم في حياته ثمَّ بدا لهم بعد وفاته.
          فقالت طائفةٌ: ذلك جائزٌ عليهم، وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاءٍ والحسن وابن أبي ليلى والزهريِّ وربيعة والأوزاعيِّ. وقالت طائفةٌ: لهم الرجوع في ذلك إن أحبَّوا، هذا قول ابن مسعودٍ وشريحٍ والحكم وطاوسٍ، وهو قول الثوريِّ وأبي حنيفة والشافعيِّ وأحمد وأبي ثورٍ.
          وقال مالكٌ: إذا أذنوا له في صحَّته فلهم أن يرجعوا، وإن أذنوا له في مرضه وحين يحجب عن ماله، فذلك جائزٌ عليهم. وهو قول إسحاق.
          وحجَّة القول الأوَّل أنَّ المنع إنَّما وقع من أجل الورثة، فإذا أجازوه(3) جاز وصار بمنزلة أن يجب لهم على إنسانٍ مالٌ فيبرِّئوه منه. وقد اتَّفقوا أنَّه إذا أوصي بأكثر من الثلث لأجنبيٍّ جاز بإجازتهم، فكذلك هذا.
          وحجَّة الذين رأوا فيه الرجوع أنَّهم أجازوا شيئًا لم يملكوه في ذلك الوقت، وإنَّما يملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله، ولا يكون وارثًا وقد يرثه غيره، وقد أجاز من لا حقَّ له فيه فلا يلزمه منه شيءٌ(4).
          وحجَّة مالكٍ أنَّ الرجل إذا كان صحيحًا فهو أحقُّ بماله كلِّه يصنع فيه ما شاء، فإذا أذنوا له في صحَّته فقد تركوا شيئًا لم يجب لهم، وذلك بمنزلة الشفيع يترك شفعته قبل البيع، أو الوليِّ إذا عفا عمَّن سيقتل وليَّه، فتركه لما لم يجب له غير لازمٍ، فإذا أذنوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحقِّ، فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفذه؛ لأنَّه قد فات، فإن لم ينفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوع فيه؛ لأنَّه لم يفت بالتنفيذ، قاله الأبهريُّ(5).
          وذكر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه: أنَّ قول مالكٍ في هذه المسألة أشبه بالسنَّن من غيره، قال ابن المنذر: واتَّفق مالكٌ والثوريُّ والكوفيُّون والشافعيُّ وأبو ثورٍ أنَّهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لزمهم.


[1] في (ز): ((جارية))،قال في التوضيح: وصوابه ((خارجة)) كما أسلفنا،في (ص): ((حَارِثة)).
[2] قوله: ((ابن المنذر)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((أجازوا)).
[4] في (ص): ((شيء منه)).
[5] في (ص): ((الأزهري)).