شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل ينتفع الواقف بوقفه؟

          ░12▒ باب: هَلْ يَنْتَفِعُ الْوَاقِفُ بِوَقْفِهِ
          وَقَدِ اشْتَرَطَ عُمَرُ: لا جُنَاحَ على مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَقَدْ يَلِي الْوَاقِفُ وَغَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ / جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ ╡ فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ.
          فيه: أَنَسٌ: (أَنَّ النَّبيَّ صلعم رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً، فَقَالَ لَهُ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فقَالَ في الثَّالِثَةِ أَوْ في الرَّابِعَةِ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ). [خ¦2754]
          قال المؤلِّف: لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنَّه أخرجه لله ╡ وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيءٍ منه رجوعٌ في صدقته، وقد نهى النبيُّ صلعم عن ذلك، وإنَّما يجوز له الانتفاع به إن شرط ذلك في الوقف وأن(1) يفتقر المحبِّس أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه.
          وقال ابن القصَّار: من حبَّس دارًا أو سلاحًا أو عبدًا في سبيل الله فأنفذ ذلك في وجوهه زمانًا، ثمَّ أراد أن ينتفع به مع الناس، فإن كان من حاجةٍ فلا بأس(2).
          وذكر ابن حبيبٍ عن مالكٍ قال: من حبَّس أصلًا تجري غلَّته على المساكين، فإنَّ ولده يعطون منه إذا افتقروا، كانوا يوم مات أو حبس فقراء أو أغنياء، غير أنَّهم لا يعطون جميع الغلَّة مخافة أن يندرس الحبس، ولكن يبقي منه سهمًا للمساكين؛ ليبقى اسم الحبس، ويكتب على الولد كتابٌ أنَّهم إنَّما يعطون منه ما أعطوا على المسكنة وليس على حقٍّ لهم فيه دون المساكين.
          واختلفوا إذا أوصى بشيءٍ للمساكين فغفل عن قسمته حتَّى افتقر بعض ورثته، وكانوا يوم أوصى أغنياء أو مساكين، فقال مُطَرِّفٌ: أرى أن يُعطَوا من ذلك على المسكنة وهم أولى من الأباعد. وقال ابن الماجِشون: إن كانوا يوم أوصى أغنياء ثمَّ افتقروا أُعطوا منه، وإن كانوا مساكين لم يُعطَوا منه؛ لأنَّه أوصى وهو يعرف حاجتهم فكأنَّه أزاحهم عنه. وقال ابن القاسم: لا يُعطوا منه شيئًا مساكين كانوا أو أغنياء يوم أوصى.
          وقول مُطَرِّفٍ أشبه بدلائل السنَّة.
          قوله: (وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ جَعَلَ بَدَنَةً أَوْ شَيْئًا لِلَّهِ ╡، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا كَمَا يَنْتَفِعُ غَيْرُهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ)، فإنَّما ينتفع من ذلك إذا لم يشترط بما لا مضرَّة على من سُبِّل له الشيء، وإنَّما جاز ركوب البدنة التي أخرجها لله ╡؛ لأنَّه ركبها إلى موضع النحر ولم يكن له غنًى عن سوقها إليه، ولم يركبها في منفعةٍ له، ألا ترى أنَّه لو كان ركوبها مهلكًا لها لم يجز له ذلك، كما لا يجوز له أكل شيءٍ من لحمها.
          وقوله: (يَلِي الوَاقِفُ أوْ غَيْرُهُ(3)) فاختلف العلماء في ذلك، فذكر ابن الموَّاز عن مالكٍ أنَّه إن شرط في حبسه أن يليه لم يجز. وقاله ابن القاسم وأشهب. وقال ابن عبد الحكم عن مالكٍ: إن جعل الوقف بيد غيره يحوزه ويجمع غلَّته، ويدفعها إلى الذي حبسه يلي تفرقته وعلى ذلك حبس؛ أنَّ ذلك جائزٌ.
          وقال ابن كنانة: من حبس ناقته في سبيل الله فلا ينتفع بشيءٍ منها، وله أن ينتفع بلبنها لقيامه عليها. فمن أجاز للواقف أن يليه فإنَّما يجيز له الأكل منه بسبب ولايته وعمله، كما يأكل الوصيُّ من مال يتيمه بالمعروف من أجل ولايته وعمله، وإلى هذا المعنى أشار البخاريُّ في هذا الباب.
          ومن لم يجز للواقف أن يلي وقفه فإنَّما منع ذلك قطعًا للذريعة إلى الانفراد بغلَّته، فيكون ذلك رجوعًا فيه، وسأذكر(4) اختلاف السلف في هذه المسألة في الباب الذي(5) بعد هذا إن شاء الله تعالى.


[1] في (ص): ((أو أن)).
[2] زاد في (ص): ((به)).
[3] في (ص): ((وغيره)).
[4] في (ص): ((وسأذكرها)). وقوله بعده: ((اختلاف السلف في هذه المسألة)) ليس فيها.
[5] قوله: ((الذي)) ليس في (ص).