شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح}

          ░22▒ باب: قَوْلِ اللهِ ╡: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} إلى قوله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا(1)}[النساء:6-7]
          حسيبًا: كَافِيًا، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ فِي مَالِ اليَتِيمِ وَمَا يَأْكُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ،.
          فيه: ابْنُ عُمَرَ: (أَنَّ عُمَرَ تَصَدَّقَ بِمَالٍ لَهُ على عَهْدِ النَّبيِّ صلعم وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ثَمْغٌ، وَكَانَ نَخْلًا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ، فَقَالَ النَّبيُّ صلعم: تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لا يُبَاعُ وَلا يُوهَبُ وَلا يُورَثُ، وَلَكِنْ يُنْفَقُ ثَمَرُهُ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ، فَصَدَقَتُهُ تِلْكَ في سَبِيلِ اللهِ وفي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَالضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى، وَلا جُنَاحَ على مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُوكِلَ صَدِيقَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ بِهِ). [خ¦2764]
          وفيه: عَائِشَةُ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}[النساء:6]قَالَتْ: أُنْزِلَتْ في وَالِي(2) الْيَتِيمِ أَنْ يُصِيبَ مِنْ مَالِهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِقَدْرِ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ.
          قال المُهَلَّب: إنَّما أدخل هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنَّ عمر حبَّس ماله على أصنافٍ وجعله إلى من يليه وينظر فيه كما جعل مال اليتيم إلى من يليه وينظر فيه، فالنظر لهؤلاء الأصناف كالنظر لليتامى؛ لأنَّهم من جملة هذه الأصناف.
          وفيه من الفقه: أنَّ عمر فهم عن الله ╡ أنَّ لولي هذا المال أن يأكل منه بالمعروف، كما قال الله ╡.
          وقوله: (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ) لقول الله ╡: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ}[النساء:6]، فدلَّ أن ما(3) ليس بسرفٍ أنَّه جائزٌ لوليِّ اليتيم أن يأكله.
          وقوله: (لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ) / ولم يخصَّ غنيًّا من فقيرٍ، فيه إجازة أكل الغني ممَّايلي، وتفسير قوله ╡: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}[النساء:6]أنَّه على الندب وإن أكل بالمعروف لم يكن عليه حرجٌ والله أعلم.
          قال المؤلِّف: إلَّا أن جمهور علماء التأويل إنَّما أباحوا للوليِّ الأكل من مال اليتيم إذا كان فقيرًا ولم يذكروا في ذلك الغنيَّ، واختلفوا في الوصيِّ الفقير إذا أكل بالمعروف هل يكون عليه غرم ذلك إذا أيسر؟ فقالت طائفةٌ: إذا أيسر أدَّاه. روي ذلك عن سعيد بن جبيرٍ وعبيدة وأبي العالية ومجاهدٍ وعطاءٍ، واحتجُّوا بما رواه قَبِيصَة، عن سفيان(4)، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، قال: قال عمر: إنِّي أنزلت مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن احتجت استقرضت، ثمَّ قضيت.
          وقالت طائفةٌ: لا غرم عليه إذا أيسر. روي ذلك عن عطاءٍ أيضًا والحسن البصريِّ والنخعيِّ وقَتادة، وعليه الفقهاء، وقد روي حديث عمر ولم يذكر فيه: قضيت. رواه سعيدٌ عن قَتادة، عن أبي مِجلَزٍ، عن عمر. ومن رأى القضاء فذلك خلافٌ لكتاب الله ╡؛ لأنَّ الله تعالى قد(5) أباح للوليِّ الفقير أن يأكل بالمعروف ولم يوجب عليه شيئًا(6). وقد روي عن ابن عبَّاسٍ ما يبيِّن هذه القصَّة، روى حمَّاد بن زيدٍ عن يحيى بن سعيدٍ، عن القاسم بن محمَّدٍ أنَّ رجلًا سأل ابن عبَّاسٍ، فقال(7): إنَّ لي إبلًا وليتيمٍ(8) في حجري إبلٌ، وأنا أمنح من إبلي وأفقر فما يحلُّ لي من إبله؟ فقال: إن كنت تلتمس ضالَّتها وَتَهنَأ جَرْبَاها وتليط حوضها وتسقيها، فاشرب غير مضرٍّ بنسلٍ ولا ناهكٍ في ظهرٍ.
          قال ابن القاسم: ما سمعنا بفُتيا من غير روايةٍ أحسن منها.
          فهذا ابن عبَّاسٍ قد أباح للغنيِّ أن يشرب من لبنها بالمعروف من أجل قيامه عليها وخدمته لها، فكيف يجب أن يكون على الفقير أن يقضي ما أكل منها بالمعروف إذا أيسر، والنظر في ذلك أيضًا يبطل وجوب القضاء؛ لأنَّ عمر ☺ شبَّه مال الله بمال اليتيم(9)، وقد أجمعت الأمَّة أنَّ الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل منه بالمعروف؛ لأنَّ الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله ╡، فلا حجَّة لهم في قول عمر: ثمََ قضيت، أن لو صحَّ عنه، والله الموفِّق.
          وأمَّا تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}[النساء:6]، قال ابن عباس: ابتلوا اليتامى، أي: اختبروا عقولهم. وهو قول الحسن وقَتادة، وقال الثوريُّ: جرِّبوهم.
          وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}[النساء:6]، يعني الحلم. عن ابن عبَّاسٍ ومجاهد {فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا(10)}[النساء:6]عرفتم منهم رشدًا. وبهذا قال مالكٌ وأكثر العلماء، وقال الشَّعبيُّ والقاسم بن محمَّدٍ: إنَّ الرجل يشمط وما أونس(11) منه الرشد. وفيه قولٌ آخر: وهو أن يكون بعد بلوغه صالحًا في دينه. عن الحسن، وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ اليتيم وكان صحيح العقل دفع إليه ماله، وإن لم يؤنس منه الرشد؛ لأنَّه لا يرى الحجر على حرٍّ مسلمٍ.
          قال ابن المنذر: الصبيُّ ممنوعٌ من دفع المال إليه قبل بلوغه وإن كان فيه(12) مصلحًا، فإذا بلغ وكان غير رشيدٍ وجب منع ماله منه، وكلُّ ما أباحه الله بشرطين لم يجز إطلاقه بأحدهما، ألا ترى أنَّ من طلَّق زوجته ثلاثًا لا تحلُّ له حتَّى تنكح غيره ويطأها، فإن نكحت ولم يطأها(13) لم تحلَّ للأوَّل، فكذلك لا يجوز دفع المال إلى اليتيم، وإن بلغ النكاح حتَّى يؤنس منه الرشد، والله الموفِّق.


[1] في (ص): (({وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} إلى قوله: {مَفْرُوضًا})).
[2] قوله: ((والي)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((فكل ما)).
[4] قوله: ((عن سفيان)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((قد)) ليس في (ص).
[6] في (ص): ((شيء)).
[7] قوله: ((فقال)) ليس في (ص).
[8] في (ص): ((وليتيمي)).
[9] في (ص): ((مال اليتيم بمال الله)).
[10] قوله: ((رشدًا)) ليس في (ص).
[11] في (ص): ((آنس)).
[12] قوله: ((فيه)) ليس في (ص).
[13] في (ص): ((تطأ)).