شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب ما يستحب لمن يتوفى فجأةً أن يتصدقوا عنه

          ░19▒ باب: مَا يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تُوُفِّيَ فُجَأةً أَنْ يَتَصَدَّق عَنْهُ وَقَضَاءِ النُّذُرِ عَنِ الْمَيِّتِ
          فيه: عَائِشَةُ: (أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلعم: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَصَدَّقْ عَنْهَا). [خ¦2760]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ استَفتَى رَسُولَ اللهِ صلعم فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيهَا نَذرٌ، فَقَالَ: اقْضِهِ عَنهَا). [خ¦2761]
          قال ابن المنذر: حديث عائشة يدلُّ على إجازة الصدقة التطوُّع عن الموتى(1)، ومثله حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلعم قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلَّا من ثلاثةٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له))، وروى أبو نعيمٍ عن هشامٍ، عن قَتادة، عن سعيدٍ: أنَّ سعد بن عُبَاْدَة قال للنبيِّ صلعم حين أمره أن يتصدَّق عن أمِّه: أيُّ الصدقة أفضل يا رسول الله؟ قال: ((سقي الماء)). فدلَّت هذه الآثار عن النبيِّ صلعم أنَّ تأويل قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم:39]على الخصوص، فأمَّا العتق عن الميِّت فلا أعلم فيه خبرًا يثبت عن النبيِّ صلعم.
          وقد ثبت عن عائشة ♦ أمِّ المؤمنين أنَّها أعتقت عبيدًا(2) عن أخيها عبد الرحمن وكان مات ولم يوص. وأجاز ذلك الشافعيُّ، وقال بعض أصحابه: لمَّا جاز أن يتطوَّع بالصدقة وهي مالٌ جاز أن يتطوَّع بالعتق؛ لأنَّه مالٌ.
          وفرَّق غيره بين الصدقة والعتق فقال: إنَّما أجزنا الصدقة بالأخبار الثابتة، والعتق لا خبر فيه، بل في قوله صلعم: ((الولاء لمن أعتق)) دليلٌ على منعه؛ لأنَّ الحيَّ هو المعتق بغير أمر الميِّت فله الولاء، فإذا ثبت له الولاء فليس للميِّت منه شيءٌ.
          وهذا القول ليس بصحيحٍ؛ لأنَّه قد روى في حديث سعد بن عُبَاْدَة أنَّه قال للنبيِّ صلعم:(إِنَّ أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: ((نعم))، فدلَّ أنَّ العتق ينفع الميِّت، ويشهد لذلك فعل عائشة ♦ في عتقها عن أخيها).
          وقد اختلف الآثار في النذر الذي كان على أمِّ سعدٍ، فقيل: إنَّه كان غير عتقٍ. وذلك مذكورٌ في كتاب النذور في باب من مات وعليه نذرٌ. [خ¦6698] وقال ابن المنذر: وممَّن(3) كان يجيز الحجَّ التطوَّع عن الميِّت / الأوزاعيُّ والشافعيُّ وأحمد، ومنعه غيرهم. وقد تقدَّم ذلك(4) في كتاب الحجِّ، [خ¦1852] وقد ثبت عن عائشة أمِّ المؤمنين أنَّها أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات.
          قال ابن المنذر: وفي ترك النبيِّ صلعم إنكار فعل المرأة التي افتلتت نفسها حين ماتت ولم توص؛ دليلٌ على أنَّ تارك الوصيَّة غير عاصٍ لله ╡؛ إذ لو كان فرضًا لأخبر النبيُّ صلعم أنَّها قد تركت فرضًا، وأمَّا قضاء الدين عن الميِّت فما لزم الذمَّة فلا خلاف في قضائه عن الميِّت، وما لزم البدن ففيه الخلاف عن العلماء، وقد تقدَّم في كتاب النذور [خ¦6699] وفي(5) كتاب الحجِّ. [خ¦1852]
          وقوله: (افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا) أي: أُخِذت نفسها فجأةً، يقال: افتلت الشيء إذا أخذته فجأةً.


[1] في (ص): ((الميت)).
[2] في (ص): ((عبدًا)).
[3] في (ص): ((ممن)).
[4] قوله: ((ذلك)) ليس في (ص).
[5] قوله: ((في)) ليس في (ص).