شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود فهو جائز

          ░26▒ باب: إِذَا وَقَفَ أَرْضًا وَلَمْ يُبَيِّنِ الْحُدُودَ فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ
          فيه: أَنَسٌَ قال: (كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ النَّبيُّ صلعم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ، قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمرن:92]قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(1) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ، فَضَعْهَا حَيْثُ أَرَاكَ اللهُ، فَقَالَ: بَخْ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، أَوْ رَايِحٌ، شَكَّ ابْنُ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ، قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ في أَقَارِبِهِ وبَنِي عَمِّهِ). [خ¦2769]
          وفيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ رَجُلا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلعم: إِنَّ أُمَّهُ تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ لي مِخْرَافًا فأنا َأُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا). [خ¦2770]
          قال المُهَلَّب: إذا لم يبيِّن الحدود في الوقف فإنَّما يجوز إذا كان للأرض اسمٌ معلومٌ يقع عليها وتتعيَّن به، كما كان بيرحاء معيَّنًا، وكما كان المخراف معيَّنًا عند من أشهده، وعلى هذا الوجه تصحُّ الترجمة، وأمَّا إذا لم يكن الوقف معيَّنًا وكانت له مخاريف وأموال كثيرةٌ، فلا يجوز الوقف إلَّا بالتحديد والتعيين، ولا خلاف في هذا.
          وفيه: أنَّ لفظ الصدقة يخرج الشيء الذي يتصدَّق(2) به عن ملك الذي يملكه قبل أن يتصدَّق به، ولا رجوع له فيه، وهو حجَّةٌ لمالكٍ في إجازته للموهوب له، وللمتصدَّق عليه المطالبة بالصدقة وإن لم يحزها حتَّى يحوزها، وتصحُّ له ما دام المتصدِّق والواهب حيًّا، بخلاف ما ذهب إليه الكوفيُّون والشافعيُّ أنَّ اللفظ بالصدقة والهبة لا يوجب شيئًا لمعيَّنٍ وغيره حتَّى تقبض، وليس للموهوب له ولا للمتصدَّق عليه المطالبة بها على ما تقدَّم في كتاب الهبات. [خ¦2599]
          وفي هذا الحديث دليلٌ أنَّ الكلام بها قد أوجب حكمًا، فله المطالبة للمعيَّن على ما قاله مالكٌ؛ لقوله: (وَإِنَّها صَدَقَةٌ يَا رَسُولَ الله فَضَعْهَا حَيثُ أَرَاكَ اللهُ)، فلم يجز لأبي طلحة الرجوع فيها بعد قوله: (إنَّها صدقةٌ يا رَسُولَ اللهِ)؛ لأنَّه قد صحَّ إخراجه لها عن ملكه بهذا اللفظ إلى من يجوز له أخذها.
          وفيه: أنَّ من أخرج شيئًا من ماله لله ╡ ولم يملكه أحدًا فجائزٌ أن يضعه حيث أراه الله من سبل الخير على ما تقدَّم في باب: إذا أوقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائزٌ(3)، [خ¦2756] وأنَّه يجوز أن يشاور فيه من يثق برأيه، وليس لذلك وجهٌ معلومٌ لا يتعدَّى، كما قال بعض الناس: معنى قول الرجل: لله، وفي سبيل الله كذا دون كذا، ألا ترى(4) أنَّ الصدقة الموقوفة رجعت إلى قرابة أبي طلحة ولو سبَّلها في وجهٍ من الوجوه لم تصرف إلى غيره.
          وذهب مالكٌ والشافعيُّ إلى أنَّ من حبَّس دارًا على قومٍ معيَّنين أو تصدَّق عليهم بصدقةٍ ولم يذكر أعقابهم، أو ذكر ولم يجعل لها بعدهم مرجعًا إلى المساكين أو إلى من لا يعدم وجوده من وجوه البرِّ، فمات المحبِّس عليهم وانقرضوا؛ أنَّها لا ترجع إلى الذي حبَّسها أبدًا، وترجع حبسًا على أقرب الناس بالمحبِّس يوم ترجع لا يوم حبَّس، ألا ترى أنَّ أبا طلحة جعل حائطه ذلك صدقةً لله تعالى ولم يذكر وجهًا من الوجوه التي توضع فيه الصدقة، أمره رسول الله صلعم أن يجعلها في أقاربه، وكذلك كلُّ صدقةٍ لا يذكر لها مرجعٌ تصرف على أقارب المتصدِّق بدليل هذا الحديث، وهذا عند مالكٍ فيما لم يرد به صاحبه حياة المتصدِّق عليه، فإذا أراد ذلك فهي عنده عمرى ترجع إلى صاحبها بعد انقراض المتصدَّق عليه، ولمالكٍ فيها قولٌ ثانٍ: أنَّه إذا حبَّس على قومٍ معيَّنين / ولم يجعل لها مرجعًا إلى المساكين أنَّها ترجع ملكًا إلى ربِّها كالعمرى. قيل لمالكٍ: فلو(5) قال في صدقته: هي حبسٌ على فلانٍ، هل تكون بذلك محبَّسةً؟ قال: لا؛ لأنَّها لمن ليس بمجهولٍ، وقد حبَّسها على فلانٍ(6) فهي عمرى؛ لأنَّه أخبر أنَّ تحبيسها غير دائمٍ ولا ثابتٍ، وأنَّه إلى غايةٍ. ولم يختلف قوله إذا قال: هي حبس صدقةٍ، أنَّها لا ترجع إليه أبدًا.
          فالألفاظ التي ينقطع بها ملكٌ الشيء عن ربِّه ولا يعود إليه أبدًا عند مالكٍ وأصحابه أن يقول: حبس صدقةٍ، أو حبسٌ لا يباع، أو حبسٌ على أعقابٍ مجهولين مثل الفقراء والمساكين وفي سبيل الله. فهذا كلُّه عندهم مؤبَّدٌ لا يرجع إلى صاحبها ملكًا(7) أبدًا. وأمَّا إذا قال: حياة المحبَّس عليه أو إلى أجلٍ من الآجال فإنَّها ترجع إلى صاحبها ملكًا أو إلى ورثته، وهي كالعمرى والسكنى.
          قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يأمر وصيَّه أن(8) يضع ثلث ماله(9) حيث أراه الله. فقالت طائفةٌ: يجعله في سبيل الخير ولا يأكله. هذا قول مالكٍ، وبه قال الشافعيُّ وزاد: ولا يعطيه وارثًا للميِّت؛ لأنَّه إنَّما كان يجوز له منه ما كان يجوز للميِّت.
          وقال أبو ثورٍ: يجوز أن يعطيه لنفسه أو لولده أو لمن شاء، ويجعله لبعض ورثة الميِّت، وليست هذه وصيَّةً للميِّت إنَّما هذا أمر للوصيِّ(10) أن يضعه حيث يشاء. وهو قول الكوفيِّين غير أنَّهم قالوا: ليس له أن يجعلها لأحدٍ من ورثة الميِّت؛ فإن جعله لبعضهم فهو باطلٌ مردودٌ على جميع الورثة.
          وفيه من الفقه: أنَّ من تصدَّق بشيءٍ من ماله بعينه أنَّ ذلك يلزمه، وإن كان أكثر من ثلث ماله؛ لأنَّ النبيَّ صلعم لم يقل لأبي طلحة هل هو ثلث مالك؟ كما قال لأبي لبابة، وقال لسعدٍ: ((الثلث كثيرٌ)). وقد تقدَّم كثيرٌ من معاني هذا الباب(11) في الزكاة.


[1] قوله: ((قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ...{... تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ})) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((الشيء المتصدق)).
[3] قوله: ((فهو جائز)) ليس في (ص).
[4] قوله: ((دون كذا ألا ترى)) ليس في (ص)، ومكانها: ((دوري إلى)).
[5] في (ص): ((لو)).
[6] قوله: ((هل تكون بذلك محبسة؟.... حبسها على فلان)) ليس في (ص).
[7] في (ص): ((ملك)).
[8] قوله: ((أن)) ليس في (ص).
[9] في (ص): ((يضع ثلثه)).
[10] في (ص): ((للموصي)).
[11] قوله: ((كثير من معاني هذا الباب)) ليس في (ص).