شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}

          ░8▒ باب: قَوْلِ اللهِ ╡: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء:11]
          وَيُذْكَرُ أَنَّ شُرَيْحًا وَعُمَرَ بْنَ عَبْدِالْعَزِيزِ وَطَاوُوسًا وَعَطَاءً وَابْنَ أُذَيْنَةَ أَجَازُوا إِقْرَارَ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحَقُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَالْحَكَمُ: إِذَا أَبْرَأَ الْوَارِثَ مِنَ الدَّيْنِ بَرِئَ. وَأَوْصَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنْ لا تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ الْفَزَارِيَّةُ عَمَّا أُغْلِقَ عَلَيْهِ بَابُهَا.
          وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ جَازَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ مَوْتِهَا: إِنَّ زَوْجِي قَضَانِي وَقَبَضْتُ مِنْهُ جَازَ.
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا يَجُوزُ إِقْرَارُهُ لِسُوءِ الظَّنِّ بِهِ لِلْوَرَثَةِ ثُمَّ اسْتَحْسَنَ، فَقَالَ: يَجُوزُ إِقْرَارُهُ بِالْوَدِيعَةِ وَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبيُّ صلعم: ((إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ))، وَلا يَحِلُّ مَالُ الْمُسْلِمِينَ بالظَّنِّ؛ لِقَوْلِ النَّبيِّ صلعم: ((آيَةُ الْمُنَافِقِ إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَقَالَ الله ╡: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا}[النساء:58]فَلَمْ يَخُصَّ وَارِثًا مِنْ غَيْرِهُ. فِيهِ ابْنُ عَمْرٍو، عَنِ(1) النَّبيِّ صلعم.
          وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبيُّ صلعم: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ(2): إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ). [خ¦2749]
          قال ابن المنذر: أجمع العلماء أنَّ إقرار المريض بالدين لغير الوارث جائزٌ إذا لم يكن عليه دينٌ في الصحَّة. واختلفوا إذا أقرَّ لأجنبيٍّ وعليه دينٌ في الصحَّة ببيِّنةٌ. فقالت طائفةٌ: يبدأ بدين الصحَّة. هذا قول النَّخَعِيِّ والكوفيِّين، قالوا: فإذا استوفاه صاحبه فأصحاب الإقرار في المرض يتحاصُّون.
          وقالت طائفةٌ: هما سواءٌ دين الصحَّة والدين الذي يقرُّ به في المرض إذا كان لغير وارثٍ. هذا قول الشافعيِّ وأبي ثورٍ وأبي عبيدٍ، وذكر أبو عبيدٍ أنَّه قول أهل المدينة، ورواه عن الحسن. وممَّن أجاز إقرار المريض بالدين للأجنبيِّ الثوريُّ وأحمد وإسحاق.
          قال: واختلفوا في إقرار المريض للوارث بالدين فأجازه طائفةٌ، هذا قول الحسن وعطاءٍ، وبه قال إسحاق وأبو ثورٍ. قال: وروِّينا عن شريحٍ والحسن أنَّهما أجازا إقرار المريض لزوجته بالصداق. وبه قال الأوزاعيُّ، وقال الحسن بن صالحٍ: لا يجوز إقراره لوارثٍ في مرضه إلَّا لامرأته بصداقٍ.
          وقالت طائفةٌ: لا يجوز إقرار المريض للوارث. روي ذلك عن القاسم وسالمٍ ويحيى الأنصاريِّ والثوريِّ وأبي حنيفة وأحمد بن حنبلٍ، وهو الذي رجع إليه الشافعيُّ، / وفيها قول ثالثٌ قاله مالكٌ قال: إذا أقرَّ المريض لوارثه بدينٍ نظر، فإن كان لا يتَّهم فيه قبل إقراره، مثل أن يكون له بنتٌ وابن عمٍّ فيقرَّ لابن عمِّه بدينٍ فإنَّه يقبل إقراره، ولو كان إقراره لبنته لم يقبل؛ لأنَّه يهتَّم في أنَّه يزيد ابنته على حقِّها من الميراث وينقص ابن عمِّه، ولا يتَّهم في أن يفضِّل ابن عمِّه على ابنته.
          قال: ويجوز إقراره لزوجته في مرضه إذا كان له ولدٌ منها أو من غيرها، فإن كان يعرف منه انقطاعٌ إليها ومودَّةٌ، وقد كان الذي بينه وبين ولده متفاقمًا ولعلَّ لها الولد الصغير منه فلا يجوز إقراره لها.
          واحتجَّ من أبطل إقرار المريض للوارث بأن الوصيَّة للوارث لمَّا لم تجز فكذلك الإقرار في المرض، ويتَّهم المريض في إقراره بالدَّين للوارث أنَّه(3) أراد بذلك الوصيَّة.
          واحتجَّ من أجاز ذلك بقول الحسن: (إنَّ أَحَقَّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ الرَّجُلُ آخِرَ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ الآخِرَةِ)؛ لأنَّه في حالٍ يرد على الله تعالى، فهو في حالةٍ يتجنَّب المعصية والظلم ما لا يتجنَّبه في حال الصحَّة، والتهمة منتفيةٌ عنه، وقد نهى رسول الله صلعم عن الظنِّ وقال: ((إنَّهُ أكذَبُ الحَدِيثِ))، وقال صلعم: (آيَةُ المُنَافِقِ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) وقد أجمع العلماء على أنَّه إذا أوصى رجل لوارثه بوصيَّةٍ وأقرَّ له بدينٍ في صحَّته ثمَّ رجع عنه أنَّ رجوعه عن الوصيَّة جائزٌ، ولا يقبل رجوعه عن الإقرار.
          ولا خلاف أنَّ المريض لو أقرَّ بوارثٍ لصحَّ إقراره، وذلك يتضمَّن الإقرار بالمال وشيءٍ آخر وهو النسب والولاية، فإذا أقرَّ بمالٍ فهو أولى أن يصحَّ، وهذا معنى صحيحٌ. وقد تناقض أبو حنيفة في استحسانه جواز الإقرار بالوديعة والبضاعة والمضاربة(4) ولا فرق بين ذلك وبين الإقرار بالدين؛ لأنَّ ذلك كلَّه أمانةٌ ولازمٌ للذمَّة.
          واحتجَّ أصحاب مالكٍ بأنَّه يجوز إقراره في الموضع الذي تنتفي عنه التهمة؛ وذلك أنَّ المرض يوجب حجرًا في حقِّ الورثة، يدلُّ(5) على ذلك أنَّ الثلث الذي يملك التصرُّف فيه من جميع الجهات لا يملك وضعه في وارثه على وجه الهبة والمنحة، فلمَّا لم تصحَّ هبته في المرض لم يصحَّ إقراره له، ويجوز أن يهب ماله كلَّه في الصحَّة للوارث، وفي المرض لا يصحُّ، فاختلف حكم الصحَّة والمرض.
          وأمَّا قول إبراهيم والحكم: (إِذَا أَبْرَأَ الوَارِثَ مِنَ الدَّيْنِ بَرِئَ(6))، فلا يبرأ عند مالكٍ؛ لأنَّه تلحقه تهمة أنَّه أراد الوصيَّة لوارثه.
          وأمَّا قول رافع بن خديجٍ: (أَنْ لاَ تُكْشَفَ امْرَأَتُهُ). فلا خلاف عن مالكٍ أنَّ كلَّ زوجةٍ فإنَّ جميع ما في بيتها(7) لها وإن لم يشهد لها زوجها بذلك، وإنَّما يحتاج إلى الإشهاد والإقرار إذا علم أنَّه تزوَّجها فقيرةً وأنَّ ما في بيتها من متاع الرجال(8)، أو في أمِّ الولد.
          وأمَّا قول الحسن: (إِذَا قَالَ لِمَمْلُوكِهِ عِنْدَ المَوْتِ: كُنْتُ أَعْتَقْتُكَ، جَازَ) فلا يجوز عند مالكٍ؛ لأنَّه يتَّهم أن يكون أراد عتقه من رأس ماله وهو ليس له من ماله إلَّا الثلث، فكأنَّه أراد الهروب بثلثي المملوك عن الورثة، ولو أعتقه عند موته كان من ثلثه.


[1] في (ص): ((وعن)). وقوله: ((فيه ابن عمرو)) ليس في (ص).
[2] قوله: ((ثلاث)) ليس في (ص).
[3] في (ص): ((لأنه)).
[4] في (ص): ((المضاربة والبضاعة)).
[5] في (ص): ((ويدل)).
[6] في (ص): ((بدين)) وليست في (ز) والمثبت من الصحيح.
[7] في (ص): ((بيتهما)).
[8] في (ص): ((الرجل)).