شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: إذا وقف شيئًا فلم يدفعه إلى غيره فهو جائز

          ░13▒ باب: إِذَا أوَقَفَ شَيْئًا فَلَمْ يَدْفَعَهُ إلى غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ
          لأنَّ عُمَرَ أَوْقَفَ وَقَالَ: لا جُنَاحَ على مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ، وَلَمْ يَخُصَّ إِنْ وَلِيَهُ عُمَرُ أَوْ غَيْرُهُ، وقَالَ النَّبيُّ صلعم لأبِي طَلْحَةَ: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأقْرَبِينَ)، فَقَالَ: أَفْعَلُ، فَقَسَمَهَا في أَقَارِبِهِ وَبَنِي(1) عَمِّهِ.
          وإِذَا قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ وَلَمْ يُبَيِّنْ لِلْفُقَرَاء أَوْ غَيْرِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ يَضَعُهَا في الأَقْرَبِينَ أَوْ حَيْثُ أَرَادَ. وقَالَ النَّبيُّ صلعم لأَبِي طَلْحَةَ حِينَ قَالَ له: أَحَبُّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ، فَأَجَازَ النَّبيُّ صلعم ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ لِمَنْ، وَالأَوَّلُ أَصَحُّ. وَإِذَا قَالَ أَرْضِي أَوْ بُسْتَانِي صَدَقَةٌ / عَنْ(2) أُمِّي فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ.
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهَا، أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ الْمِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَنهَا). [خ¦2756]
          اختلف العلماء في الوقف إذا لم يخرجه الواقف من يده إلى أن مات. فقالت طائفةٌ: يصحُّ الوقف ولا يفتقر إلى قبضٍ. وهو قول أبي يوسف والشافعيِّ. وقالت طائفةٌ: لا يصحُّ الوقف حتَّى يخرجه عن يده ويقبضه غيره. هذا قول ابن أبي ليلى ومالكٍ ومحمَّد بن الحسن. وحجَّة القول الأوَّل أن عُمَر بن الخطَّاب وعليَّ بن أبي طالبٍ وفاطمة، ♥، أوقفوا أوقافًا وأمسكوها بأيديهم وكانوا يصرفون الانتفاع بها في وجوه الصدقة فلم يبطل.
          واحتجَّ الطحاويُّ لأبي يوسف فقال: رأينا أفعال العبادات على ضروبٍ، فمنها العتاق وينفذ بالقول؛ لأنَّ العبد إنَّما يزول ملك مولاه عنه بقوله: أنت لله ╡(3)، ومنها الهبات والصدقات لا تنفذ بالقول حتَّى يكون معه القبض من الذي ملكها، فأردنا أن ننظر حكم الأوقاف بأيِّها هي أشبه فنعطفه عليه، فرأينا الرجل إذا أوقف داره أو أرضه(4) فإنَّما ملك الذي أوقفها عليه منافعها ولم يملِّكه من رقبتها شيئًا، إنَّما أخرجها من ملك نفسه إلى الله ╡، فثبت أنَّ نظير ذلك ما أخرجه من ملكه إلى الله ╡، فكما كان ذلك لا يحتاج فيه إلى قبضٍ مع القول؛ كذلك الوقف لا يحتاج فيه إلى قبضٍ مع القول.
          وأيضًا فإنَّ القبض لو أوجبناه لكان(5) القابض يقبض ما لم يملك بالوقف، فقبضه إيَّاه وغير قبضه سواءٌ. فثبت قول أبي يوسف وإليه ذهب البخاريُّ، واستدلَّ من قوله: (فَقَسَمَهَا أَبُو طَلحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) أنَّ الوقف لم يخرج من يدي أبي طلحة.
          وحجَّة الذين جعلوا القبض شرطًا في صحَّة الوقف إجماع أئمَّة الفتوى على أنَّه لا تنفذ الهبات والصدقات بالقول حتَّى يقبضها الذي ملكها، ألا ترى أنَّ أبا بكر قال في مرضه لابنته، وقد كان نحلها أحدًا وعشرين وسقًا: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنَّما(6) هو اليوم مال وارثٍ. فكان حكم الوقف حكم الهبات.
          وقول النبيِّ صلعم لأبي طلحة: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ) لا حجَّة فيه لمن أجاز الوقف، وإن لم يخرج عن يد الذي أوقفه؛ لأنَّه ليس في الحديث أنَّ أبا طلحة لم يخرج الوقف عن يده، ولو استدلَّ مستدل بقوله: (فَقَسَمَهَا أَبُو طَلحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ) أنَّه أخرجها عن يده لساغ ذلك، ولم يكن من استدلَّ أنَّه لم يخرجها عن يده أولى منه بالتأويل.
          واختلفوا إذا قال: هذه الدار وهذه الضيعة وقفٌ، ولم يذكر وجوهًا تصرف فيها. فعند مالكٍ أنَّه يصحُّ الوقف، وكذلك لو قال: على أولادي وأولادهم. ولم يذكر بعدهم الفقراء أو بني تميمٍ ممَّن لم ينقطع نسلهم فإنَّه يصحُّ الوقف، ويرجع ذلك إلى فقراء عصبته، فإن(7) لم يكونوا فقراء فإلى فقراء المسلمين. وبه قال أبو يوسف ومحمَّدٌ، وهو أحد قولي الشافعيِّ.
          والقول الثاني: أنَّه لا يصحُّ الوقف.
          قال ابن القصَّار: وحجَّة القول الأوَّل أنَّه إذا قال: وقفٌ(8). فإنَّما أراد البرَّ والقربة، وألَّا ينتفع هو بشيءٍ من ذلك، فالانتفاع يكون محبوسًا على ولده وولد ولده، فإذا انقرضوا صرف ذلك إلى أقرب الناس به من فقراء عصبته، وهذا المعنى يحصل به البرُّ والقربة، وكذلك إذا قال: هذا وقفٌ محرَّمٌ؛ لأنَّه معلومٌ أنَّه قصد به البرَّ والقربة فحمل على ما علم من قصده، كرجلٍ أوصى بثلث ماله فإنَّ ذلك يفرَّق في الفقراء والمساكين وإن لم يسمِّهم؛ لأنَّه قد عُلم ذلك من قصده، ألا ترى قول سعد بن عُبَاْدَة للنبيِّ صلعم: (فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ المِخْرَافَ صَدَقَةٌ عَنْها)، ولم يسمِّ على من يتصدَّق بالحائط، ولم ينكر ذلك النبيُّ صلعم ولو لم تجز الصدقة والوقف على غير مُسمِّين لم يترك النبيُّ صلعم بيان ذلك / لأنَّ عليه فرض التبليغ والبيان.
          قال المُهَلَّب: ولا حاجة بنا إلى أن نذكر على من يكون الوقف؛ لأنَّ الله تعالى قد بيَّن أصناف الذين تجب لهم الصدقات في كتابه، وقد مضى من سنَّة رسول الله صلعم في قصَّة أبي طلحة ما فيه شفاءٌ، فرأى صلعم في قصَّة أبي طلحة أن تصرف الصدقة إلى صنفٍ واحدٍ وهم أقارب أبي طلحة.
          قال ابن القصَّار: فإن قيل: قد قلتم إنَّه إذا أوقف على من لا يولد له ولم يكن له ولد في الحال لم يجز الوقف، وقلتم هاهنا إذا قال: وقفٌ. يصحُّ(9) الوقف فما الفرق؟
          قيل: الفرق بينهما أنَّه إذا أوقفه على من لم يولد له فقد وقفه على غير موجودين؛ لأنَّه قد يجوز ألَّا يولد له، وإذا وقفه ولم يذكر وجهًا يصرف فيه، ففقراء المسلمين الذين تجوز لهم الصدقة قد(10) ذكرهم الله تعالى في كتابه، موجودون غير معدومين ففي أيِّها جعلها(11) الإمام صحَّ الوقف.


[1] في (ص): ((في الأقربين بني)).
[2] في (ز): ((على)) والمثبت من (ص).
[3] في (ص): ((مولاه عنه إلى الله)).
[4] في (ص): ((أرضه أو داره)).
[5] في (ص): ((فإنما كان)).
[6] في (ص): ((فإنما)).
[7] في (ص): ((وإن)).
[8] في (ص): ((وقفت)).
[9] في (ص): ((صح)).
[10] في (ص): ((وقد)).
[11] في (ص): ((يجعله)).