شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: هل يدخل النساء والولد في الأقارب

          ░11▒ باب: هَلْ يَدْخُلُ الْوَلَدُ وَالنِّسَاءُ في الأقَارِبِ
          فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: (لمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} قَامَ النَّبيُّ صلعم فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شَئْتِ مِنْ مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا). [خ¦2753]
          أجمع العلماء على أنَّ اسم الولد يقع على البنين والبنات، وأنَّ النساء التي من صلبه وعصبته كالعمَّة والابنة والأخت يدخلون في الأقارب إذا أوقف على أقاربه، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم خصَّ عمَّته بالنذارة كما خصَّ ابنته، وكذلك من كان في معناهما ممَّن يجمعه معه أبٌ واحدٌ. وروى أشهب عن مالكٍ أنَّ الأمَّ لا تدخل في مرجع الحبس. وقال ابن القاسم: تدخل الأمُّ في ذلك ولا تدخل الأخوات للأمِّ.
          واختلفوا في ولد البنات أو ولد العمَّات ممَّن لا يجتمع في أبٍ واحدٍ مع الوصيِّ والمحبِّس هل يدخلون في القرابة أم لا؟ فقال أبو حنيفة والشافعيُّ: إذا أوقف وقفًا على ولده أنَّه يدخل فيه ولد ولده، وولد بناته ما تناسلوا، وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كلُّ ذي رحمٍ محرَّم، فيسقط عنده ابن العمِّ و(1) العمَّة، وابن الخال والخالة؛ لأنَّهم ليسوا بمحرَّمين.
          والقرابة عند الشافعيِّ: كلُّ ذي رحمٍ محرَّم وغيره، فلم يسقط عنده ابن العمِّ ولا غيره. وقال مالكٌ: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقوله: لقرابتي وعقبي، كقوله: لولدي وولد ولدي. يدخل فيه ولد البنين، ومن يرجع إلى عصبة الأب وصلبه ولا يدخل ولد البنات.
          قال ابن القصَّار: وحجَّة من أدخل ولد البنات في الأقارب قوله صلعم في الحسن بن عليٍّ: ((إنَّ ابني هذا سيِّدٌ، ولعلَّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين))، قالوا: ولا نظنُّ أحدًا يمتنع أن يقول في ولد البنات أنَّهم ولدٌ لأبي أمِّهم والمعنى(2) يقتضي ذلك؛ لأنَّ الولد في اللغة مشتقٌّ من التولُّد، وهم / متولِّدون عن أبي أمِّهم لا محالة؛ لأنَّه أحد أَصلَيهم الذي يرجعون إليه، قال الله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى}[الحجرات:13]فللذكر حظُّه وللأنثى حظُّها، والتولُّد عن جهة الأمِّ كالتولُّد عن جهة الأب(3)، وقد دلَّ القرآن على ذلك قال الله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام:84-85]فجعل عيسى من ذرِّيَّته وهو ابن بنته، ولم يفرِّق في الاسم بين بني بنيه وبني ابنته.
          واحتجَّ عليهم أهل المقالة الثانية فقالوا: إنَّما سمَّى النبيُّ صلعم الحسن ابنًا على وجه التحنُّن والفضيلة دون الحقيقة، وإنَّما أبوه في الحقيقة عليٌّ وإليه نسبه، ولا يمتنع أن تقع التسمية تارةً على الحقيقة وتارةً على المجاز، ألا ترى أنَّ النبيَّ صلعم قال في العبَّاس: ((اتركوا لي أبي)) فلا يمتنع أن يسمَّى ولد البنات ابنًا كما يسمَّى الجدُّ والدًا، والعمُّ والدًا، والخال والدًا، إلَّا أنَّ اسم الأب في هذا متميِّزٌ يرجع في حقيقته إلى ولد الصلب خاصَّةً، كما يرجع في اسم الأب حقيقةً إلى الأب دينًا.
          ولمَّا ذكر عيسى ◙ مع ولد البنين الذين هم ذرِّيَّةٌ على الحقيقة جرى عليه الاسم على طريق الاتِّساع والتغليب للأكثر المذكور(4)، وهذا شائعٌ في كلام العرب، ودليلٌ آخر وهو قوله: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}[النساء:11]ولم(5) يعقل المسلمون من ظاهر الآية إلَّا ولد الصلب وولد الابن خاصَّةً، ألا ترى قوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}[الحشر:7]اختصَّ ذلك ببني أعمامه ومن يرجع بنسبه إليه؛ لأنَّه صلعم أعطى سهم القرابة بني(6) أعمامه دون بني أخواله فكذلك ولد البنات؛ لأنَّهم لا ينتمون إليه بالنسب ولا يلتقون معه في أبٍ، قال الشاعر:
بَنُونَا بَنُو آبائِنا وبَناتُنا                     بنُوهنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأبَاعِدِ
          وفي إعطائه ◙ بني المطَّلب وهم بنو أعمامه حجَّةٌ على أبي حنيفة أنَّ ابن العمِّ داخلٌ في القرابة، ولمَّا أعطى النبيُّ صلعم لبني المطَّلب وبني هاشمٍ جاء عثمان وجبير بن مطعمٍ إليه صلعم، فقال: قد عرفنا فضل بني هاشمٍ لمكانك الذي وضعك الله فيهم، فما بالنا وبني المطَّلب أعطيتهم ومنعتنا وقرابتنا واحدةٌ؟! فقال صلعم: ((إنَّهم لم يفارقونا في جاهليَّةٍ ولا إسلامٍ)) وعثمان من بني عبد شمسٍ، وجبير بن مطعم من بني نوفلٍ، وهم إخوة عبد شمس بن عبد منافٍ، والمطَّلب بن عبد مناف، وهاشم بن عبد منافٍ.
          فأعطى بني المطَّلب وهم بنو أعمامه وأعطى بني هشامٍ وهم بنو جدِّه، وليس فيهم من يرجع إلى أجداد الأمهات مثل ولد البنات والأخوال وغيرهم من ذوي الأرحام، فدلَّ ذلك على فساد قول أبي حنيفة والشافعيِّ في أنَّ القرابة تقع على قرابة الأب والأمِّ؛ لأنَّه صلعم لم يعط إلَّا من رجع إلى عصبته. ويردُّ قول الشافعي في التسوية بين الأقرب والأبعد، لأنَّه صلعم لمَّا أعطى بني هشامٍ وبني المطَّلب ومنع الآخرين علم أنَّه لا يستحقُّ بالقرابة إلَّا على وجه الاجتهاد، وقد يدخل في القرابة جميع قريشٍ لقوله: (يَا مَعشَرَ قُرَيشٍ) وخصَّ بعضهم بالعطاء فصحَّ قول مالكٍ أن يبدأ بالفقراء قبل الأغنياء.
          قال المُهَلَّب: وقوله صلعم لابنته: (سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئتِ) فيه من الفقه أنَّ الاستئلاف للمسلمين وغيرهم بالمال جائزٌ؛ لأنَّه إذا جاز أن يُستألف المسلم بالمال حتَّى يزداد بصيرةً في الإسلام جاز أن يستألف الكافر حتَّى يدخل في الإيمان؛ بل هو أوكد.


[1] زاد في (ص): ((ابن)).
[2] في (ص): ((فالمعنى)).
[3] في (ص): ((الأب كالتولد من جهة الأم)).
[4] في (ص): ((المذكورين)).
[5] في (ص): ((فلم)).
[6] قوله: ((بني)) ليس في (ص).