شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب وقف الأرض للمسجد

          ░30▒ باب(1): وَقْفِ الأرْضِ لِلْمَسْجِدِ
          فيه: أَنَسٌ: (لَمَّا قَدِمَ النبيُّ صلعم الْمَدِينَةَ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا، فقَالُوا(2): لا، وَاللهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إلى اللهِ). [خ¦2774]
          وترجم له باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلَّا إلى الله.
          في هذا الحديث حجَّةٌ على أبي حنيفة / في إبطاله الأوقاف والأحباس؛ لأنَّ الأمَّة مجمعةٌ(3) أنَّ من جعل أرضًا له مسجدًا للمسلمين في صحَّته فإنَّه(4) ليس لورثته ردُّها ميراثًا بينهم. وقال أبو حنيفة في الرجل يحبس داره على المساكين يسكنونها: أنَّها ترجع ميراثًا بين ورثته، ويجيز ذلك إن فعله في مرضه أو في وصيَّته، ويكون في ثلثه، فإن قال: إنَّ المسجد لا يجوز له ولا لورثته الرجوع فيه بعد أن أخرجه في صحَّته وجعله مسجدًا لجماعة المسلمين؛ قيل له: فما الفرق بين ما جعل من ذلك مسجدًا أو ما جعل منه(5) سقايةً أو مقبرةً أو مرفقًا(6) لجماعة المسلمين، وهل بينك وبين من عكس هذا عليك، فأجاز ما أبطلت، وأبطل ما أجزت فرقٌ من أصلٍ أو قياسٍ؛ فلن يقول في شيءٍ من ذلك قولًا إلَّا ألزم في الآخر مثله، قاله الطبريُّ.
          وقد أجاز العلماء أوقاف أهل الذمَّة ولم يروا نقضها فكيف تنقض أوقاف المسلمين؟! وجدت(7) بخطِّ أبي عبيدٍ الحِيريِّ: وسئل أبو الحسن عليُّ بن ميسرة القاضي البغداديُّ عن رجلٍ كان له على نصرانيٍّ دينٌ، فأفلس النصرانيُّ ولا مال له سوى وقفٍ أوقفه على مساكين أهل ملَّته قبل استحداثه الدين؛ هل يجوز نقض الوقف وأخذ المسلم له قضاءً من دينه أم لا؟ فأجاب بأن قال بأنَّ أهل الذمَّة ليست أملاكهم مستقرَّةً، وإنَّما لهم شبهة ملكٍ على ما في أيديهم، فإذا اختاروا رفع أيديهم عن الشبهة ارتفعت، ولم يعترض عليهم في نقض ما عقدوه ممَّا لو كان في شريعتنا لم يجز نقضه؛ لأنَّهم على ذلك صولحوا، ولمَّا جاز إقرارهم على غير دين الحقِّ إذا أعطوا الجزية وجب أن لا يعترض عليهم في نقض وقفٍ ولا غيره ممَّا يتعلَّق بحقِّ الله ╡.


[1] قوله: ((باب)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((قالوا)).
[3] زاد في (ص): ((على)).
[4] في (ص): ((أنه)).
[5] في (ص): ((مسجدًا وبين ما جعله)).
[6] في (ص): ((موقفًا)).
[7] في (ص): ((ووجدت)).