شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب قول الله تعالى: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى}

          ░18▒ باب: قَوْلِ اللهِ تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}[النساء:8]
          فيه: ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ، وَلا وَاللهِ مَا نُسِخَتْ، وَلَكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ بِهَا، هُمَا وَالِيَانِ: وَالٍ يَرِثُ وَذَلكَ الذي يَرْزُقُ، وَوَالٍ لا يَرِثُ فَلذَلكَ الذي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ. [خ¦2759]
          اختلف العلماء في هذه الآية فقال قومٌ: إنَّها منسوخةٌ بالمواريث. هذا قول سعيد بن المسيِّب وطائفةٍ من التابعين. وقالت عائشة وابن عبَّاسٍ والنخعيُّ وعطاءٌ والحسن: إنَّها محكمةٌ غير منسوخةٍ. وقال ابن عبَّاسٍ: هي واجبةٌ يعمل بها.
          وذكر إسماعيل القاضي أنَّ عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكرٍ قسم ميراث أبيه عبد الرحمن، وعائشة حيَّةٌ، فلم يدع في الدار مسكينًا ولا ذا قرابةٍ إلَّا أعطاه من ميراث أبيه، وتلا: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} الآية[النساء:8]. قال القاسم بن محمَّدٍ: فذكرت ذلك لابن عبَّاسٍ فقال: ما أصاب، إنَّما ذلك في الوصيَّة يريد الميت أن يوصي. وقال ابن المسيِّب: إنَّما ذلك في الثلث عند الوصيَّة(1).
          وروى قَتادة عن يحيى بن يَعمَر قال: ثلاث آياتٍ في كتاب الله محكماتٌ مدنيَّاتٌ قد ضيَّعهنَّ الناس. فذكر هذه الآية، وآية الاستئذان للذين لم يبلغوا الحلم في العورات الثلاث، وهذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} الآية[الحجرات:3]. /
          وقال إسماعيل: وأمَّا الذين قالوا: إنَّها محكمةٌ. فيمكن أن يكونوا تأوَّلوا أنَّها على الترغيب دون الإيجاب، ويمكن أن تأوَّلوها على الإيجاب، وأمَّا الذين قالوا: إنَّها منسوخة. فأحسب أنَّهم تأوَّلوها على الإيجاب، ثمَّ نسخت بآية الوصيَّة، وأمَّا الذين تأوَّلوا أنَّ ذلك إنَّما عني به من الوصيَّة فإنَّ الله تعالى قال في آية المواريث: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}[النساء:11]، فليس يجوز أن ينقص أهل المواريث ممَّا جعل الله لهم إلَّا بدينٍ على الميِّت أو وصيَّةٍ يوصي بها فتنفذ، إلَّا أن تكون الوصيَّة للفقراء أو في أبواب البرِّ فيُخصَّ منها أولو القربى واليتامى بالاجتهاد، وقد تأوَّل زيد بن أسلم أنَّ هذا شيءٌ أمر به الذي يوصي في وقت وصيَّته كما تأوَّله ابن عبَّاسٍ.
          روى(2) ابن وهبٍ عن يعقوب بن عبد الرحمن قال: سألت زيد بن أسلم عن قوله ╡: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ}[النساء:8]، قال: هو(3) الرجل حين يوصي يحضره(4) ناسٌ ويحضر(5) أولو القربى واليتامى والمساكين فيذكِّرونه(6) قرابته والمساكين، فيقولون: فلانٌ مسكين. وفلانٌ ذو حاجةٍ. فأمره أن يحسن ولا يجحف بولده، فنهى الذين حضروا أن يتكلَّموا بغير ذلك وتلا: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً} مثل ما ترك {ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا}[النساء:9].
          وقال قَتادة في قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ(7)}[النساء:9]، قال: إذا حضرت وصيَّة ميِّتٍ فاؤمره بما كنت تأمر به نفسك ممَّا يُتقرَّب به إلى الله ╡، وخَف في ذلك ما كنت تخافه على ضعفهم لو تركتهم بعدك، فاتَّق الله وقل قولًا سديدًا إن هو زاغ.


[1] قوله: ((يريد الميت أن يوصي. وقال ابن المسيب: إنما ذلك في الثلث عند الوصية)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((وروى)).
[3] في (ص): ((هذا)).
[4] في (ص): ((ويحضره)).
[5] في (ص): ((ويحضره)).
[6] في (ص): ((فيذكر)).
[7] قوله: ((مِنْ خَلْفِهِمْ)) ليس في (ص) وفيها بعدها: ((قالوا)).