شرح الجامع الصحيح لابن بطال

باب: أن يترك ورثته أغنياء خير من أن يتكففوا الناس

          ░2▒ باب: الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ / وَأَنْ يَتْرُكَ وَرَثَتَهُ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَتَكَفَّفُون النَّاسَ
          فيه: سَعْدٌ: (جَاءَ النبيُّ صلعم يَعُودُنِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، وَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأرْضِ التي هَاجَرَ مِنْهَا، قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ ابْنَ عَفْرَاءَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لا، قُلْتُ: فالثُّلُثُ، قَالَ: الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أَيْدِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ تَرْفَعُهَا إلى فيِ امْرَأَتِكَ، وَعَسَى اللهُ أَنْ يَرْفَعَكَ فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ). وَلَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا ابْنَةٌ. [خ¦2742]
          ذكر الله تعالى الوصيَّة في كتابه ذكرًا مجملًا، ثمَّ بيَّن النبيُّ صلعم أنَّ الوصايا مقصورةٌ على ثلث مال الميِّت؛ لإطلاقه صلعم لسعدٍ الوصية بالثلث في هذا الحديث، وأجمع العلماء على القول به واختلفوا في القدر الذي يستحبُّ أن يوصي به الميت، وسيأتي ذكر هذا الباب(1) بعد هذا إن شاء الله تعالى، إلَّا أنَّ الأفضل لمن له ورثة أن يقصر في وصيَّته عن الثلث غنيًّا كان أو فقيرًا؛ لأنَّ رسول الله صلعم لمَّا قال لسعدٍ: (الثُّلُثُ كَثِيرٌ) أتبع ذلك بقوله: (إِنَّكَ أنْ تَدَعَ(2) وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) ولم يكن لسعدٍ إلَّا ابنةٌ واحدةٌ كما ذكر في هذا الحديث، فدلَّ هذا أنَّ ترك المال للورثة خيرٌ من الصدقة به(3)، وأنَّ النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة، وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة قال لها رجلٌ: إنِّي أريد أن أوصي. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلافٍ. قالت: فكم عيالك؟ قال: أربعةٌ. قالت: إنَّ الله يقول: {إِن تَرَكَ خَيْرًا}[البقرة:180]وإنَّ هذا شيءٌ يسيرٌ فدعه لعيالك فإنَّه أفضل. وروى حمَّادٌ عن أيُّوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر أنَّه ذكر له الوصيَّة في مرضه فقال: أمَّا مالي فالله أعلم ما كنت أفعل(4) فيه، وأمَّا رباعي فلا أحبُّ أن يشارك فيها ولدي أحدٌ.
          وعن عليِّ بن أبي طالبٍ ☺ أنَّه دخل على رجلٍ من بني هاشم يعوده، وله ثمانمائة درهمٍ وهو يريد أن يوصي، فقال له: يقول الله تبارك وتعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا}[البقرة:180]، ولم تدع خيرًا توصي فيه. وعن ابن عبَّاسٍ: من ترك سبعمائة درهمٍ فلا يوصي، فإنَّه لم يترك خيرًا. وقال قَتادة في قوله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْرًا}[البقرة:180]: ألف درهمٍ فما فوقها. قال ابن المنذر: وقد دلَّت(5) هذه الآثار على أنَّ من ترك مالًا قليلًا، فالاختيار له ترك الوصيَّة وإبقاؤه للورثة.
          وقوله: (عَسَى اللهُ أَنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بِكَ نَاسٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ) فهذا قد خرج كما قال ◙، ثبت أنَّ سعدًا أُمِّر على العراق فأتي بقومٍ ارتدوا عن الإسلام، فاستتابهم فأبى بعضهم فقتلهم، فضرَّ أولئك، وتاب بعضهم فانتفعوا به، وعاش سعدٌ بعد حجَّة الوداع خمسًا وأربعين سنةً. وقال الطحاويُّ: في حديث سعدٍ جواز الوصيَّة بالثلث، ولو كان جورًا لأنكر ذلك صلعم وأمره بالتقصير عنه، ثمَّ تكلَّم الناس بعد هذا في هبات المريض وصدقاته إذا مات من مرضه، فقال قومٌ وهم أكثر العلماء: هي من الثلث كسائر الوصايا. واتَّفق على ذلك فقهاء الحجاز والعراق.
          وقالت فرقةٌ: هي من جميع المال كأفعاله وهو صحيحٌ. وهذا قولٌ(6) لم نعلم أحدًا من المتقدِّمين قاله، وأظنُّه قول أهل الظاهر إذا قُبِضت هبة المريض وعطاياه فهي من رأس ماله؛ لأنَّ ما قبض قبل الموت ليس بوصيَّةٍ، وإنَّما الوصيَّة ما يستحقُّ بموت الموصي، وسواءٌ قبضت عند جماعة الفقهاء أو لم تقبض هي من الثلث.
          قال الطحاويُّ: وحديث عائشة أنَّ أباها نحلها جداد عشرين وسقًا بالغابة فلمَّا مرض قال: لو كنت حزتيه لكان لك، وإنَّما هو اليوم مال وارثٍ. فأخبر الصدِّيق أنَّها لو كانت قبضته في الصحَّة تمَّ لها ملكه، وأنَّها لا تستطيع قبضه في المرض قبضًا يتمُّ لها به ملكه، وفعل ذلك غير جائزٍ كما لا تجوز الوصيَّة لها به، ولم تنكر ذلك عائشة / على أبي بكرٍ ولا سائر الصحابة، فدلَّ أنَّ مذهبهم جميعًا كان فيه مثل مذهبه، وفي هذا أعظم الحجَّة على من خالف قول جماعة العلماء.
          وكذلك فعل النبيُّ صلعم في الذي أعتق ستَّة أعبدٍ له عند الموت لا مال له غيرهم، فأقرع النبيُّ صلعم بينهم فأعتق اثنين وأَرَقَّ أربعةً، فجعل العتاق في المرض من الثلث، فكذلك الهبات والصدقات؛ لأنَّها كلَّها سواءٌ في تفويت المال.
          وقوله: (خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) والعالة: جمع عائلٍ: وهو الفقير الذي لا شيء له، ومنه قوله ╡: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}[الضحى:8]و(يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ): يبسطون أكفَّهم لمسألتهم. وقال(7) صاحب «العين»: استكفَّ السائل: بسط كفَّه.


[1] قوله: ((ذكر هذا الباب)) ليس في (ص).
[2] في (ص): ((تذر)).
[3] قوله: ((به)) ليس في (ص).
[4] في (ص): ((أعمل)).
[5] في (ص): ((فدلت)).
[6] في (ص): ((القول)).
[7] في (ص): ((قال)).