إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ليس على أبيك كرب بعد اليوم

          4462- وبه قال: (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الواشحيُّ قال: (حَدَّثَنَا حَمَّادٌ) هو ابنُ زيد (عَنْ ثَابِتٍ) البُنانيِّ (عَنْ أَنَسٍ) ☺ أنَّه (قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلعم ) أي: اشتدَّ به المرضُ (جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ) الكربُ (فَقَالَتْ فَاطِمَةُ) ابنته ( ♀ : وَاكَرْبَ أَبَاهْ) بألف الندبة والهاء الساكنة للوقف، والمراد بالكَربِ: ما كان ╕ يجدُهُ من شدَّةِ الموتِ، فقد كان صلعم فيما يصيبُ جسدهُ الشَّريف من الآلامِ كالبشرِ؛ ليتضاعَفَ أجرُهُ، وقول الزَّركشي: إنَّ في قولِها هذا نظرًا، وقد رواه مباركُ بنُ فضالةَ: «واكرباهُ». تعقِّبَ بأنَّه لا تدفعُ رواية البخاريِّ مع صحَّتِها بمثلِ هذا، لا سيَّما مع قوله: (فَقَالَ) ╕ (لَهَا: لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ) هذا (اليَوْمِ) إذ هو ذاهبٌ إلى حضرةِ الكرامَةِ، وهو يدلُّ على أنَّها قالتْ: «واكربَ أبَاهْ» كما لا يخفَى (فَلَمَّا مَاتَ) صلوات الله وسلامه عليه (قَالَتْ: يَا أَبَتَاهْ) أصله: يا أبِي، والفوقية بدل من التحتية، والألف للنُّدْبَة‼، والهاءُ للسكتِ (أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ) إلى حضرتِهِ القدسيَّةِ (يَا أَبَتَاهْ، مَنْ جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ) بفتح ميم «مَن»(1) مبتدأ، والخبرُ قوله: (مَأْوَاهُ) منزلُهُ (يَا أَبَتَاهْ، إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ) بـ «إلى» الجارَّة، و«ننعاهُ»: بنونين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة، وزاد الطَّبرانيُّ في «معجمه الكبير» والدَّارمي في «مسنده»: «يا أبتاهُ، مِن ربِّهِ ما أدنَاهُ» (فَلَمَّا دُفِنَ) صلعم (قَالَتْ فَاطِمَةُ ♀ : يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا) بالمثناة(2) الفوقية المفتوحة والحاء المهملة الساكنة والمثلثة المضمومة (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلعم التُّرَابَ) سكتَ أنسٌ عن جوابها رعايةً لها(3)، ولسانُ حالهِ يقول: لم تطبْ أنفسُنُا بذلك، إلَّا أنَّا قهرنَا على فعلِ ذلك امتثالًا لأمرهِ صلعم ، وليس قولها: واكربَ أباهُ، من النِّياحةِ؛ لأنَّه ╕ أقرَّها عليه.
          وهذا الحديث أخرجه ابنُ ماجه في «الجنائز»، وقد عاشَتْ فاطمةُ بعده ╕ ستَّة أشهرٍ، فما ضحكَتْ تلكَ المدَّة وحقَّ لها ذلك، ورُوِيَ أنَّها قالت:
اِغْبرَّ آفاقُ السَّماءِ وكُوِّرتْ                     شمسُ النَّهارِ وأظْلَمَ العَصْـرانِ
والأرْضُ مِن بَعدِ النَّبيِّ كَئِيبةٌ                     أَسَفًا عَلَيه كَثِيرةُ الرَّجَفَانِ
فَلْتَبْكِهِ شرقُ البِلادِ وغَرْبُها                     ولْتَبْكِهِ مُضَـرٌ وكُلُّ يَمَان
          قال السُّهيليُّ: وقد كان موتُهُ صلعم خَطبًا كالِحًا، ورزءًا لأهلِ الإسلامِ فَادِحًا، كادَت تُهَدُّ لهُ الجبالُ، وترجُفُ الأرضُ، وتَكسِفُ النَّيِّرات(4)؛ لانقطَاعِ خبرِ السَّماءِ، مع مَا آذَنَ به موتُهُ ╕ من إقبالِ الفِتنِ السُّحمِ، والحوادِثِ الدُّهمِ، والكُرَبِ المُدْلَهِمَّة، فلولا ما أنزلَ اللهُ من السَّكينةِ على المؤمنينَ، وأسرَجَ في قلوبِهِم من نورِ اليقينِ، وشرَحَ صدورَهُم من فَهْمِ كتابِهِ المبينِ؛ لانقصَمَت الظُّهورُ، وضاقَتْ من(5) الكُرَبِ الصُّدُور، ولعاقَهُم الجَزَعُ عن تدبيرِ الأموْرِ، ولقد كان / من قَدِمَ المدينةَ يومئذٍ من النَّاسِ إذا أشرَفُوا عليها سمِعُوا(6) لأهلِهَا ضَجِيجًا، وللبُكاءِ في أرجَائِها عَجِيجًا، وحقَّ ذلكَ لهم ولمن بعدَهُم، كما رُوِي عن(7) أبي ذؤيبٍ الهذليِّ قال: بلغنا أنَّ رسولَ الله صلعم عليلٌ، فاستَشعَرتُ(8) حُزنًا، وبتُّ بأطولِ ليلةٍ، لا ينجَابُ دَيْجُورُها ولا يطلُعُ نورُهَا، فظَلِلْتُ أقَاسِي طُولها، حتَّى إذا كان قُرْبَ السَّحرِ أغفيْتُ، فهتفَ بي هاتفٌ يقول:
خَطْبٌ أَجَلُّ أناخَ بالإسْلَامِ                     بينَ النَّخيلِ ومَعْقِدِ الآطَامِ
قُبِضَ النَّبيُّ محمَّدٌ فعُيُونُنا                     تَهْمِي الدُّمُوعَ عَليهِ بالتَّسْجامِ
          قال: فوثبتُ من نَومِي فزعًا، فنظرْتُ إلى السَّماءِ فلم أرَ إلَّا سعْدَ الذَّابِحِ(9)‼، فتفاءَلتُ به(10) ذَبحًا يقعُ في العربِ، وعلمتُ أنَّ النَّبيَّ صلعم قد قبضَ، فركبْتُ ناقتِي وسرْتُ، فقدمتُ المدينةَ ولأهلِهَا ضجيجٌ بالبُكَاءِ كضجيجِ الحجيْجِ، فقلتُ: مهْ؟ فقالوا: قبضَ رسولُ الله صلعم ، فجئتُ المسجدَ فوجدتُهُ خاليًا، فأتيتُ رسولَ الله صلعم (11) فوجدتُ بابَهُ مُرْتَجًا، وقيل: هو مسجًّى، قد خلا به أهلُهُ، فقلت: أين النَّاسُ؟ فقيل: في سقيفةِ بني ساعدةَ، فجئتُهم فتكلَّمَ أبو بكرٍ ☺ ، فللَّهِ درُّهُ من رجلٌ لا يطيلُ الكلامَ، ومدَّ يدَهُ فبايعوهُ، ورجعَ فرجعْتُ معه، فشهدْتُ الصَّلاة على النَّبيِّ صلعم ودفنهِ.


[1] «من»: ليست في (ص)، وفي (م) و(د) زيادة: «موصولة وجنة الفردوس مبتدأ».
[2] «بالمثناة»: ليست في (د).
[3] «لها»: ليست في (ب) و(م) و(د).
[4] في (س): «النيران».
[5] في (ص): «عن».
[6] في (م): «يسمعوا».
[7] في (م) زيادة: «ابن».
[8] في (ص): «فاستشعرنا».
[9] في (ج) :«سعدًا الذابح»، وفي الهامش بخطه: «سعد الذَّابح».
[10] «به»: ليست في (ص).
[11] قوله: «فجئت المسجد فوجدته خاليًا، فأتيت رسول الله صلعم»: ليس في (ص).