إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه

          1374- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الوَلِيدِ) بفتح العين والمثنَّاة التَّحتيَّة المشدَّدة، آخره شينٌ معجمةٌ، الرَّقَّام البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى السَّاميُّ _بالسِّين المهملة_ قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هو ابن أبي عَروبة (عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) وسقط لفظة «ابن مالك» لأبي ذَرٍّ ( ☺ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ) بالواو، والضَّمير للميِّت، ولأبي ذَرٍّ: ”إنَّه“ (لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ) زاد مسلمٌ: «إذا انصرفوا» (أَتَاهُ مَلَكَانِ) زاد ابن حِبَّان والتِّرمذيُّ من حديث أبي هريرة: «أسودان أزرقان، يُقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النَّكير»، والنَّكير(1): فعيلٌ بمعنى مفعول، والمُنْكَر «مُفْعَل»(2) مِن أنكر، وكلاهما ضدُّ المعروف، وسُمِّيا(3) به‼؛ لأنَّ الميِّت لم يعرفهما، ولم ير صورةً مثل / صورتهما، وإنَّما صُوِّرا كذلك؛ ليخاف الكافر ويتحيَّر في الجواب، وأمَّا المؤمن فيثبِّته(4) الله بالقول الثَّابت، فلا يخاف؛ لأنَّ من خاف الله في الدُّنيا وآمن به وبرسله(5) وكتبه؛ لم يخف في القبر، وزاد الطَّبرانيُّ في «الأوسط» من حديث أبي هريرة أيضًا: «أعيُنُهما مثل قدور النُّحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقر، وأصواتهما مثل الرَّعد»، وزاد عبد الرَّزَّاق من مرسل عمرو بن دينارٍ: «يحفران بأنيابهما، ويطأان في أشعارهما، معهما مرزبَّةٌ لو اجتمع عليها أهل منى؛ لم يُقِلُّوها» وذكر بعض الفقهاء: أنَّ اسم اللَّذَين يسألان المذنب: منكرٌ ونكيرٌ، و(6)اسم اللَّذَين يسألان المطيع: مبشِّرٌ وبشيرٌ، كذا نقله في «الفتح» (فَيُقْعِدَانِهِ) فتُعاد روحه في جسده، وفي حديث البراء: «فيجلسانه»، وزاد ابن حِبَّان من حديث أبي هريرة: «فإذا كان مؤمنًا؛ كانت الصَّلاة عند رأسه، والزَّكاة عن يمينه، والصَّوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال له: اجلس، فيجلس، وقد مُثِّلتْ له الشَّمس عند الغروب»، زاد ابن ماجه(7) من حديث جابرٍ: «فيجلس يمسح عينيه، ويقول: دعوني أصلِّي»، فانظر كيف يُبعث المرء على ما عاش عليه، واعتاد بعضهم أنَّه(8) كلَّما انتبه؛ ذكر الله، واستاك، وتوضَّأ وصلَّى، فلمَّا مات رُئِيَ، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: لمَّا جاءني الملكان، وعادت إليَّ روحي، حسبت أنِّي انتبهت من اللَّيل، فذكرت الله على العادة، وأردت أن أقوم أتوضَّأ فقالا لي: أين تريد تذهب؟ فقلت: للوضوء(9) والصَّلاة، فقالا(10): نم نومة العروس، فلا خوف عليك ولا بؤس (فَيَقُولَانِ) له: (مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هذا الرَّجُلِ؟ لِمُحَمَّدٍ صلعم ) بيانٌ من الرَّاوي، أي: لأجل محمَّدٍ ╕ ، وعبَّر بذلك امتحانًا؛ لئلَّا يتلقَّن تعظيمه عن(11) عبارة القائل، والإشارة في قوله: «هذا» للحاضر، فقيل: يُكشَف للميِّت حتَّى يرى النَّبيَّ صلعم ؛ وهي بشرى عظيمةٌ للمؤمن إن صحَّ ذلك، ولا نعلم(12) حديثًا صحيحًا مرويًّا في ذلك، والقائل به إنَّما استند لمجرَّد أنَّ الإشارة لا تكون إلَّا لحاضرٍ، لكن يحتمل أن تكون الإشارة لما في الذِّهن، فيكون مجازًا(13)، وزاد أبو داود في أوَّله: «ما كنت تعبد؟ فإنِ الله هداه، قال: كنتُ أعبد الله، فيُقال(14) له: ما كنت تقول في هذا الرَّجل؟» (فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ) زاد في حديث أسماء بنت أبي بكرٍ الصِّدِّيق السَّابق في «العلم» [خ¦86] و«الطَّهارة» [خ¦182] وغيرهما: «جاءنا بالبيِّنات والهدى، فأجبنا وآمنَّا واتَّبعنا» (فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ) ولأبي داود: «هذا بيتك كان في النَّار» (قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا) فيزداد فرحًا إلى فرحه، ويعرف‼ نعمة الله عليه بتخليصه من النَّار، وإدخاله الجنَّة، وفي حديث أبي سعيدٍ عند سعيد بن منصورٍ: «فيقال له: نم نومة عروسٍ، فيكون في أحلى نومةٍ نامها أحد حتَّى يُبعَث(15)»، وللتِّرمذيِّ من حديث أبي هريرة: «ويقال له: نم نومة العروس الَّذي لا يوقظه إلَّا أحبُّ أهله إليه، حتَّى يبعثه الله من مضجعه ذلك» (قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا) بضمِّ الذَّال مبنيًّا للمفعول (أَنَّهُ يُفْسَحُ فِي قَبْرِهِ) «في» زائدةٌ، والأصل: يُفسَح قبره، ولأبوي ذَرٍّ والوقت ”يُفسَح له في قبره“ وزاد ابن حِبَّان: «سبعين ذراعًا في(16) سبعين ذراعًا»، وعنده من وجهٍ آخر عن أبي هريرة ☺ : «ويُرْحَب له في قبره سبعين ذراعًا، ويُنوَّر له كالقمر ليلة البدر»، وعنده أيضًا: «فيزداد غبطةً وسرورًا، فيُعاد الجلد إلى ما بُدِىء منه، وتجعل روحه في نَسَم طائرٍ تَعْلَقُ في شجرِ الجنَّة» (ثُمَّ رَجَعَ) قتادة (إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ، قَالَ: وَأَمَّا المُنَافِقُ وَالكَافِرُ) كذا بواو العطف، وتقدَّم في «باب خفق النِّعال» [خ¦1338] «وأمَّا الكافر أو المنافق» بالشَّكِّ (فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟) محمَّدٍ صلعم (فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي؟) وفي رواية أبي داود المذكورة: «وإنَّ الكافر إذا وُضِع في قبره؛ أتاه ملكٌ فينتهره، فيقول له: ما كنت تعبد؟»، وفي أكثر الأحاديث: «ما كنت تقول في هذا الرَّجل؟» وفي حديث البراء: «فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري؟ فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري؟ فيقولان له: ما هذا الرَّجل الَّذي بُعِث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري؟» (كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ(17) النَّاسُ) المسلمون (فَيُقَالُ) له: (لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ) أصله: تلوت بالواو، والمحدِّثون إنَّما يروونه بالياء للازدواج، أي: لا فهمتَ ولا قرأتَ القرآن، أو المعنى: لا دريتَ ولا اتَّبعتَ من يدري، ولأبي / ذَرٍّ: ”ولا أَتْليت“ بزيادة ألفٍ وتسكين المثنَّاة الفوقيَّة، وصوَّبها يونس بن حبيبٍ، فيما حكاه ابن قتيبة: كأنَّه(18) يدعو عليه؛ بأنَّه لا يكون له من يتبعه، واستبعد هذا في دعاء الملكين، وأجيب بأنَّ هذا أصل الدُّعاء، ثمَّ استُعمِل في غيره (وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً) بإفراد «ضربةً» وجمع «مطارق» ليؤذن بأنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء تلك المطرقة مطرَقةٌ برأسها مبالغةً (فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ) مفهومه: أنَّ من بَعُد لا يسمعه، فيكون مقصورًا على الملكَين، لكن في حديث البراء: «يسمعها ما بين المشرق والمغرب»، والمفهوم لا يعارض المنطوق، وفي حديث أبي سعيدٍ عند أحمد: «يسمعه خلق الله كلُّهم» (غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ) الجنِّ والإنس، و«غيرَ» نصبٌ على الاستثناء، وفي هذا الحديث: إثبات عذاب القبر، وأنَّه واقعٌ على الكفَّار ومَن شاء الله من الموحِّدين، والمسألة وهل هي واقعةٌ على كلِّ أحدٍ؟ فقيل: إنَّما(19) تقع على من‼ يدَّعي الإيمان إنْ محقًّا وإنْ مبطلًا؛ لقول عبيد بن عميرٍ أحدِ كبار التَّابعين فيما رواه عبد الرَّزَّاق: إنَّما يُفتَن رجلان مؤمنٌ ومنافقٌ، وأمَّا الكافر فلا يُسأل عن محمَّدٍ، ولا يعرفه، والصَّحيح أنَّه يُسأل؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث المرفوعة الصَّحيحة الكثيرة الطُّرق، وبذلك جزم التِّرمذيُّ الحكيم، وقال ابن القيِّم في «الرُّوح»: في الكتاب والسُّنَّة دليلٌ على(20) أنَّ السُّؤال للكافر والمسلم، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم:27] وفي حديث أنسٍ في «البخاريِّ» [خ¦1374]: «وأمَّا المنافق والكافر» بواو العطف. وهل(21) يُسأَل الطِّفل الَّذي لا يُميِّز؟ جزم القرطبيُّ في «تذكرته» أنَّه(22) يُسأل، وهو منقولٌ عن الحنفيَّة، وجزم(23) غير واحدٍ من الشَّافعيَّة بأنَّه لا يُسأَل، ومِن ثمَّ قالوا(24): لا يستحبُّ أن يُلقَّن(25)، وقال عبيد بن عميرٍ، ممَّا ذكره الحافظ زين الدِّين ابن رجبٍ في كتابه «أهوال القبور»: المؤمن يُفتَن سبعًا، والكافر(26) أربعين صباحًا، ومن ثمَّ كانوا يستحبُّون أن يُطعَم عن المؤمن سبعة أيَّامٍ من يوم دفنه، وهذا ممَّا انفرد به، لا أعلم أحدًا قاله غيره، نعم؛ تبعه في ذلك وفي(27) قوله السَّابق بعض العصريِّين، فلم يصب(28)، والله الموفِّق، وقد صحَّ أنَّ المرابط في سبيل الله لا يُفتَن _كما في حديث مسلمٍ وغيره_ كشهيد المعركة والصَّابر في الطَّاعون الَّذي لا(29) يخرج من البلد الَّذي يقع فيه(30) قاصدًا بإقامته ثواب الله راجيًا(31) صدق موعوده عارفًا أنَّه إن وقع له؛ فهو بتقدير الله تعالى، وإن صُرِفَ عنه فبتقديره تعالى، غير متضجِّرٍ به لو وقع معتمدًا على ربِّه في الحالتين؛ لحديث البخاريِّ والنَّسائيِّ، عن عائشة مرفوعًا: «فليس من رجل يقع الطَّاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنَّه لا يصيبه إلَّا ما قد(32) كَتبَ الله له، إلَّا كان له مثل أجر الشَّهيد» [خ¦3474] وجه الدَّليل: أنَّ الصَّابر في الطَّاعون المتَّصف بالصِّفات المذكورة نظير المرابط في سبيل الله، وقد صحَّ أنَّ المرابط لا يُفتَن، ومَن مات بالطَّاعون فهو أَولى، وهل السُّؤال يختصُّ بهذه الأمَّة المحمَّديَّة، أم يعمُّ الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث التَّخصيص، وبه جزم الحكيم التِّرمذيُّ، وجنح ابن القيِّم إلى التَّعميم، واحتجَّ بأنَّه ليس في الأحاديث ما ينفي ذلك، وإنَّما أخبر النَّبيُّ صلعم أمَّته بكيفيَّة امتحانهم في القبور، قال: والَّذي يظهر أنَّ كلَّ نبيٍّ مع أمَّته كذلك، فتُعذَّب كفَّارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجَّة عليهم؛ كما يعذبون في الآخرة بعد السُّؤال وإقامة الحجَّة عليهم، وهل(33) السُّؤال باللِّسان العربيِّ أم بالسِّريانيِّ؟ ظاهر قوله: «ما كنت تقول في هذا الرَّجل؟» إلى آخر الحديث، أنَّه بالعربيِّ، قال شيخنا: ويشهد له ما رويناه من طريق يزيد بن طريفٍ قال: مات أخي فلمَّا أُلحِدَ، وانصرف النَّاس عنه وضعت رأسي على قبره، فسمعت صوتًا ضعيفًا‼ أعرف أنَّه صوت أخي، وهو يقول: الله، فقال له(34) الآخر: ما دينك؟ قال: الإسلام. ومن طريق العلاء بن عبد الكريم قال: مات رجلٌ، وكان له أخٌ ضعيف البصر، قال أخوه: فدفنَّاه، فلمَّا انصرف النَّاس عنه وضعت رأسي على القبر، فإذا أنا بصوتٍ من داخل القبر، يقول: من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيُّك؟ فسمعت صوت أخي وهو(35) يقول: الله، قال الآخر: فما دينك؟ قال: الإسلام، إلى غير ذلك ممَّا يستأنس به لكونه عربيًا، قال الحافظ ابن حجرٍ: ويحتمل مع ذلك أن يكون / خطاب كلِّ أحدٍ بلسانه، قال شيخنا: ويستأنس له بإرسال الرُّسل بلسان قومهم، وعن الإمام البلقينيِّ أنَّه بالسِّريانيَّة، والله أعلم.


[1] «النَّكير»: ليست في (ص) و(م).
[2] في (ص) و(م): «مفعول»، وليس بصحيحٍ.
[3] في (د): «تسمَّيا».
[4] في غير (د) و(س): «فيثيبه»، وهو تصحيفٌ.
[5] في (د): «برسوله».
[6] زيد في غير (د) و(س): «أنَّ».
[7] في (م): «حِبَّان»، وليس بصحيحٍ.
[8] «أنه»: ليس في (د).
[9] في (ص) و(م): «الوضوء».
[10] زيد في (د): «لي».
[11] في غير (ص) و(م): «مِنْ».
[12] في (د): «يُعلَم».
[13] قوله: «والإشارة في قوله: هذا، للحاضر، فقيل... الإشارة لما في الذِّهن، فيكون مجازًا»، سقط من (م).
[14] في (ص): «فيقول»، وليس بصحيحٍ.
[15] في (ص): «يبعثه الله».
[16] في (م): «و».
[17] في (ب) و(س): «يقوله».
[18] في (م): «كأن».
[19] في (ب): «إنَّها».
[20] «على»: مثبتٌ من (د) و(س).
[21] زيد في غير (ب) و(س): «به».
[22] زيد في (ص) و(م): «لا».
[23] زيد في غير (ب) و(س): «به».
[24] في (د): «قال».
[25] قوله: «بأنَّه لا يُسأَل، ومِن ثمَّ قالوا: لا يستحبُّ أن يُلقَّن»، سقط من (ص) و(م).
[26] في (ص) و(م): «والمنافق»، كذا في أهوال القبور.
[27] «في»: ليس في (د).
[28] «فلم يصب»: سقط من (د).
[29] في (م): «لم».
[30] في (ص) و(م): «به».
[31] في (د): «واجبًا».
[32] «قد»: ليس في (ص) و(م).
[33] في (د): «هذا».
[34] «له»: ليس في (د).
[35] «وهو»: ليس في (د).