التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها

          ░46▒ بَابٌ إِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلَا يُخْبِرْ بِهَا وَلَا يَذْكُرْهَا
          7044- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي قَتَادَةَ السَّالِفَ في بابِ الرُّؤيا مِن الله [خ¦6984].
          7045- وكذا حديثَ يَزِيدَ _وهو ابنُ عبدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الهادِي_ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ☺ أَيْضًا.
          وقولُه: (فَلْيَتْفِلْ) هو بكسْرِ الفاءِ، وحكى الجَوْهَرِيُّ الضَّمَّ أيضًا وقال: التَّفْلُ يُشْبِهُ البُزَاقَ وهو أقلُّ منه، أوَّلُهُ البَزْقُ ثمَّ التَّفْلُ ثمَّ النَّفْثُ ثمَّ النَّفْخُ، وقال بعضُهم: هذا ممَّا يُغلط فيه، فيجعلونَه بالثَّاءِ ويضمُّونَ الفِعْلَ المستقبَل منه، والصَّوابُ بالتَّاءِ والكسْرِ في المستقبلِ لا غير. والنَّفْثُ كالتَّفْلِ إلَّا أنَّ النَّفْثَ نفخٌ لا بُصَاق معه والتَّفْلُ معه شيءٌ مِن الرِّيق.
          وقد سَلَفَ في حديث أبي قَتَادَةَ أنَّ التَّفْلَ ثلاثًا عن شِمَالِه، والأحاديثُ وَرَدَتْ مرَّةً بالبُصَاقِ ومرَّةً بالتَّفْلِ ومرَّةً بالنَّفْثِ والمعنى متقارِبٌ كما سَلَفَ، ووجْهُ نفْثِه إخساءُ الشَّيطانِ كما يتفِلُ الإنسانُ عند الشَّيءِ القَذِر يراه أو يذكرُهُ، ولا شيءَ أقذرُ مِن الشَّيطانِ فأَمَرَهُ بالتَّفْلِ عند ذِكْرِهِ، وكونُه ثلاثًا مبالغةً في إخسائِهِ، وكونُه عن الشِّمالِ لأنَّ الشرور كلَّها تأتي عند العربِ مِن جِهَتِه ولذلك سمَّتها الشُّؤمَى، ولذلك كانوا يَتَشاءمون بما جاء مِن قِبَلِها مِن طائرٍ ووحْشٍ آخِذًا إلى ناحيةِ اليمين، فسمَّى ذلك بعضُهم بَارِحًا وكانوا يتطيَّرُون منه، وسمَّاه بعضُهم سَانِحًا وأنَّه ليس فيه كثيرُ اعتمالٍ مِن بطْشٍ وأَخْذٍ وإعَطَاءٍ وأكلٍ وشُربٍ، وأصلُ طريقِ الشَّيطانِ إلى ابنِ آدمَ لدُعَائِه إلى ما يَكرهُهُ الله / مِن قِبَلِها.
          فَصْلٌ: وإنَّما أَمَرَ الشَّارعُ إذا رَأَى ما يُحبُّ أَلَّا يحدِّثَ بها إلَّا مَن يُحِبُّ لأنَّ المحبَّ لا يُعَبِّرها إلَّا بخيرٍ، والعِبارةُ لأوَّلِ عابِرٍ، ولأنَّه لا يسوؤُه ما يُسَرُّ به صديقُه، بل هو مسرورٌ بما يسرُّهُ وغيرُ حريصٍ أن يتأوَّل الرُّؤيا الحَسَنةَ شرَّ التَّأويل، ولو أخبرَ بها مَن لا يُحِبُّه لم يأمَنْ أن يؤوِّلَها شَرَّ التَّأويلِ، فربَّما وافق ذلك وجهًا مِن الحقِّ في تأويلِها فَتَخْرُجُ كذلك لِقولِه ◙: ((الرُّؤيا لأوَّلِ عابِرٍ)).
          فَصْلٌ: وأمَّا إذا رَأَى ما يَكرَهُ فقد أَمَرَهُ الشَّارع بمداواةِ ما يخافُ مِن ضَرَرِها وتلافيه بالتَّعوُّذِ بالله مِن شرِّها ومِن شرِّ الشَّيطانِ، ويتفِلُ عن شمالِه ثلاثًا ولا يحدِّثُ بها أَحَدًا فإنَّها لن تَضُرَّه. قال الدَّاوُدِيُّ: يريدُ ما كانَ مِن الشَّيطانِ، وأمَّا ما كانَ مِن اللهِ مِن خيرٍ أو شرٍّ فهو واقعٌ لا مَحَالةَ كرُؤيا الشَّارعِ في البَقَرِ والسَّيفِ.
          قال: وقولُه: (وَلاَ يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ) يدلُّ أنَّها إن ذُكِرَتْ فَرُبَّما أَضَرَّت وإن كانت مِن الشَّيطانِ، كما أنَّ ما سُتِرَ له مِن القولِ السَّيِّئِ يَضُرُّه، وكذلك ما يُريه في المنامِ في الَّذي يُوَسْوِسُ به في اليقظة، فمن عَصَاه ولم يَذكُرْ رُؤياه واستعاذَ بالله مِن شرِّه وذكرَ اللهَ لَمْ يَضُرَّه ما يكون منه، وقد قال أبو عبدِ الملك: إنَّ معنى الحُلُمِ الَّذي مِن الشَّيطانِ هواهُ ومُرادُه لا أنَّه يفعلُ شيئًا، وأَمَرَه بالتَّعوُّذِ والتَّفْلِ لأنَّ هذا الفِعْلَ يَرْفَعُ الوَهمَ عنه وللوَهم تأثيرٌ.
          فإنْ قلتَ: قد سَلَفَ مِن أقسامِ الرُّؤيا أنَّها قد تكونُ مُنذِرةً ومنبِّهَةً للمرء على استعدادِ البلاءِ قَبْلَ وقوعِه رِفقًا مِن اللهِ بعبادِه لئلَّا يقعَ على غِرَّةٍ فيَقْتُلَ، فإذا وقع على مقدِّمةٍ وتوطينٍ كان أقوى للنَّفْسِ وأبعدَ لها مِن أَذَى البغْتَةِ، وقد سَلَفَ في عِلْم اللهِ _إذا كانتِ الرُّؤيا الصَّحيحةُ مِن قِبَل الله مُحزِنَةً_ أنْ تضرَّ مَن رآها، فما وجهُ كِتمانِها؟
          أجاب المُهَلَّب: أنَّه إذا أخبرَ بالرُّؤيا المكروهةِ فيسوءُ حالُه ولم يأمَنْ أن تُفسَّر له بالمكروهِ فيستَعْجِلَ الهمَّ ويتعذَّبَ له ويترقَّبَ وقوعَ المكروهِ، فيسوءُ حالُه ويغلِبُ عليه اليأسُ مِن الخلاصِ مِن شرِّها، ويجعلُ ذلك نُصْبَ عينَيْهِ، وقد كان دَاوَاهُ الشَّارِعُ مِن هذا البلاءِ الَّذي عجَّلَهُ لِنَفْسِه بما أَمَرَهُ به مِن كتمانِها والتَّعوِّذِ باللهِ مِن شرِّها، وإذا لم تفسَّر له بالمكروهِ بقيَ بين الطَّمَعِ والرَّجاءِ المجبولةِ عليه النَّفْسُ أنَّها لا تجزَعُ إمَّا لأنَّها مِن قِبَلِ الشَّيطان، أو لأنَّ لها تأويلًا آخَرَ على المحبوب، فأراد ◙ أَلَّا تتعذَّبَ أُمَّتُه بانتظارِهم خروجَها بالمكروهِ كأنَّ الرُّؤيا قد يَبْطُؤُ خروجُها، وعلى أنَّ أكثرَ ما يراه الإنسانُ ممَّا يَكرهُهُ فهو مِن قِبَلِ الشَّيطانِ، فلو أخبر بذلك كلِّه لم ينفكَّ دَهْرَهُ دائمًا مِن الاهتمام بما لا يُؤذِيِه أكثرُه، وهذِه حكمةٌ بالغةٌ واحتياطٌ على المؤمنين، فجزاه الله عنَّا مِن نبيٍّ خيرًا.